د. عبدالحميد الأنصاري | جريدة الجريدة – الكويت

كانت بداية موفقة وذات دلالة ثقافية عميقة أن يفتتح الملتقى الإعلامي العربي الـ16 (الكويت 22-21 أبريل- مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي) فعالياته، بجلسة “أنسنة الإعلام” تبارى فيها فرسان الإعلام العُماني بالحديث الذي شد الجمهور إلى تجربة عمان الفريدة، في إعلام “فن التعايش المشترك” بين المكونات المجتمعية المختلفة، وسمو التسامح، وثقافة قبول الآخر التي يمتاز بها المجتمع العُماني وتشكل إحدى سماته الرئيسة، ويحسب لـ”اللجنة المنظمة” للملتقى، وأمينه العام، الإعلامي النشط ماضي الخميس، اختيارهم “سلطنة عمان” ضيف شرف، إذ كان اختيارا موفقاً منسجماً مع الافتتاحية، ولا غرو، فعمان تقدم نموذجاً إنسانياً للتآخي والتواد والانسجام المجتمعي، ودون أي ادعاء أو مباهاة أو دعاية إعلامية، فلا أقل من أن يسلط الإعلام العربي الأضواء على تجربتها الرائدة.

ضم الملتقى باقة إعلامية عربية وخليجية، من الكتاب والمثقفين والمسؤولين والإعلاميين والإعلاميات والفنانين والفنانات، والفاشينيستات، أضفين جواً ودياً بهيجاً على الفعاليات المختلفة، كما تنوعت المحاور لتشمل كل العناصر المكونة للصناعة الإعلامية ومتغيراتها: “التنمر الإعلامي والإلكتروني” و”الإعلام والرياضة” و”يوم الإعلام العربي بين الواقع والمستقبل” و”مستقبل الإعلام والإعلام المستقبلي” و”الطب في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي” و”لغة الحوار: خلاف أم اختلاف” و”الإعلام وقضايا الإنسانية” و”الإعلام والقيم الإنسانية”… إلخ، كما كرمت رموز إعلامية.

ماذا تعني أنسنة الخطاب الإعلامي العربي؟

الأنسنة، هي نزعة فلسفية أخلاقية تعلي من قيمة الإنسان ومرجعيته، وتنتهج العقلانية في التفكير والسلوك، وتركز على ما يجمع البشر من قواسم مشتركة رغم الاختلافات بينهم، وأبرز من طرح هذا المصطلح في السياق التداولي الثقافي العربي، المفكر محمد أركون، في كتابه “نزعة الأنسنة في الفكر العربي”. (ت، هاشم صالح، دار الساقي 2006).

لمفهوم “أنسنة الإعلام” أكثر من معنى، أن يتعاطف الإعلامي مع الحالات الإنسانية الناتجة عن الحروب والكوارث والمآسي، مع اللاجئين والهاربين والمشردين والمظلومين والمضطهدين، هذا مطلوب، لكنه مفهوم ضيق.

“أنسنة الإعلام” لها مفهوم أوسع من التعاطف الإنساني في حالات الكوارث، معناها: الانحياز للإنسان وقضاياه وحقوقه، وأن يكون له الأولوية على الحكومات والأنظمة، كما الإعلام الغربي، خاصة dw الألمانية الناطقة بالعربية، ومهنية “قل الحق ولو على نفسك”.

معناها: أن يركز الإعلام على ما يجمع البشر لا ما يفرقهم، وعلى ما يرسخ القواسم المشتركة بين الأديان والمذاهب والمعتقدات والثقافات، وإضاءة الأوجه الإيجابية للشراكة بين الشعوب والمجتمعات، معناها: أن يكون الإعلام عوناً على نشر ثقافة التسامح والمحبة والمواطنة ونبذ التعصبات القبلية والطائفية والأيديولوجية وفكر الكراهية والإقصاء، معناها: أن يساهم الإعلام بالدفاع عن حريات التعبير وحقوق الإنسان، وتثمين التعددية الدينية والمذهبية والسياسية والثقافية، معناها: أن يدعم الإعلام إعادة الاعتبار للرأي الآخر المهمش وشرعنته، وترسيخ ثقافة الحوار، وحق الاختلاف السياسي والديني والمذهبي، من غير تكفير أو تخوين أو إقصاء، معناها: زرع الأمل والإيجابية في نفوس الشباب وتحبيبهم في الحياة والأحياء، وتحصينهم من فكر التطرف والغلو والتكفير والكراهية.

معنى أن يكون خطابنا الإعلامي إنسانياً: الكف عن ثقافة تمجيد الذات، وأوهام خير أمة، وتضخيم الهوية، والتغني المرضي بالمآثر والأمجاد الماضية، وهذا يقتضي ترسيخ ثقافة نقد الذات، والإقلاع عن لوم الآخر، وتحميله مسؤولية تردي أوضاعنا، وتصويره بالمتآمر الأبدي الذي يستهدفنا، قرآننا يقرر أن مشاكلنا بفعل أيدينا لا بفعل الآخر، ومن عدم الإنصاف اتهامه “وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ…”.

ختاماً: أنسنة الإعلام، تعني بكلمة مختصرة، احتضان الإنسان لأنه إنسان مكرم من قبل خالقه، قبل أن يكون ذكراً أو أنثى، مؤمناً أو غير مؤمن “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ” نريد إعلاماً شاهداً يقول الحق ولو على نفسه “شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ” يقدم خطاباً متصالحاً مع الذات، ومع العالم.

 

رابط المقالة http://www.aljarida.com/articles/1556465148946558500/