محمد الرميحى | جريدة الشرق الأوسط

قلب صحن التمر الذي رُصت عليه أنواع مختلفة وأخذ يشرح لي تلك الأنواع وأسماءها وأين موقع أرضها، كان ذلك في بيته في الرياض قبل حضور المدعوين. قلت لنفسي وقتها لعله مهتم ثقافياً بهذا الأمر، ولكن عندما أرسل إليَّ كتابه المعنون «مشيناها… حكايات ذات» مع بداية الصيف فهمت سبب اهتمام المرحوم عبد الرحمن بن صالح الشبيلي بموضوع التمر، فقد كان ابن تاجر تمر في مدينة عنيزة في إقليم القصيم في المملكة العربية السعودية في أربعينات القرن الماضي. تألمتُ لخبر وفاة عبد الرحمن، الرجل الدمث، وواحد من جيل النهضة السعودية الحديثة. يرمز إلى نفسه في هذا الكتاب بأنه «صاحبنا» وقد كان ابن الثالثة عشرة عندما طلب منه والده أن يتسلق شجرة نخيل فوقع على الأرض «فانفكّت يده من المعصم» وقام مجبّر العظام في المدينة بجبرها من جريد النخل.
كتاب عبد الرحمن المذكور ليس الأول وليس الأخير من إنتاجه الفكري الغنيّ، هو قبل الأخير الذي سرد فيه بتجرد وشفافية مسيرة رجل في شعب تحول من الكفاف إلى الرفاه، وما صاحب ذلك من أمل وقلق، مع وزن ثقيل من الوفاء لعدد من الأسماء السعودية التي واكبت فترة النهضة، وهي في الغالب فترة النصف الثاني من القرن العشرين.
شخصياً وجدت في الكتاب لا المعلومات النافعة فقط، ولكن أيضاً البعد الاجتماعي الذي أشار إليه «صاحبنا» في أكثر من مكان. يصف طفولته وأول شبابه في مدينة عنيزة، التي وصفها أمين الريحاني في كتابه القيّم «ملوك العرب» بـ«باريس نجد» عند مروره بها في العقد الثاني من القرن الماضي (قبل مائة عام تقريباً)، كما يصفها صاحبنا بأنها «مدينة النخلة والقلم والإبداع»، لانفتاح أهلها وقدرتهم على المبادرة وتقلب بعضهم في مناطق بعيدة طلباً للرزق. عبد الرحمن ينقل إلينا تفاصيل تلك البلدة بطرقها ومعالمها وأيضاً برجالها وأسرها التي امتد عطاء بعضهم إلى ثغور عربية عديدة من الزبير والبصرة جنوب العراق مروراً بالكويت والبحرين وإلى بومبي في الهند وغرباً إلى ثغور الشمال الأفريقي. يقول صاحبنا عاكساً جو الأربعينات: «يلحظ مَن يتعمق في تراث ذلك المجتمع حينذاك تأثير العراق والكويت والبحرين في المفردات اللغوية وطباع الملبس والمعيشة». ثم يستطرد: «وقد يفوق ذلك التأثير ثقافة العقيلات والرحيلية والتي تعاملت بعض أسر عنيزة معها في التجارة فتنقلت بين الشام وفلسطين ومصر». يأسف «صاحبنا» أنه لم يبدأ الكتابة إلا بعد سن الأربعين، ولم ينتبه إلى أهمية التوثيق مبكراً، وإلا لكان قد وثّق ما كان الآباء في عنيزة قد عايشوه. لم يصف كتابه بأنه ترجمة لحياته أو عصره، بل استخفّ ببعض الكتابات التي كانت لا أكثر من انطباعات، لذلك تأخر في وضع الكتاب المذكور متردداً إلا بعد إلحاح ودعوات من المحبين، وشعور من جانبه -كما سطر- بـ«أن للوقت قيمة»، كما أنه «سار يسابق الزمن كأنه في عجلةٍ من أمره». طفولته وشبابه في عنيزة يلخصها بالقول: «كنت في أسرة تغالب الحال بالتعفف وعزة النفس»، ما أجمل هذا التوصيف، ومن «جيل اعتاد المشي حفاةً في الشتاء والقيظ، لبسوا من تفصيل أمهاتهم ثياب القماش الخشن»، يقبل الناس على العمل في مهن مختلفة كسباً للعيش وبعضهم يتبرع بالتجبير أو توصيف الأدوية ويتعفف آخرون عن الجلوس للقضاء حذراً من ارتكاب خطأ يحاسب الله الرجل عليه، ومن النساء من يجلن في الأسواق بيعاً وشراءً. اللافت أن بعض النساء، ومنهن والدة صاحبنا، وُلدن في إسطنبول، وأخريات في نفس الحيز الزمني من بشري في لبنان… زوجات صالحات وأمهات مندمجات في المجتمع «العنيزي» يخبزن العجين ويحلبن البقر.
ثم ينتقل إلى الرياض في بداية حياته الجامعية، حيث يصف المدينة وهي تتوسع، ثم عمله في الإذاعة وبعده التلفزيون ومن ثم بقية سيرة جميلة كُتبت بقلم يحمل الكثير من عبق اللغة السلسة والعبارة الرشيقة. ترك عبد الرحمن خمسة وخمسين كتاباً ومحاضرة مطبوعة في عدد من الموضوعات المختلفة، منها تعقب أعمال بعض معاصريه، ومنها ما حمل موضوعات متخصصة، وعندما ترك هذه الدنيا جراء حادث منزلي مؤسف في 30 يوليو (تموز) من هذا العام، ترك تراثاً معرفياً يُسجِّل بشكل ما نهضة وطن وإخلاص مواطنين. جيل، كما ذكرت، أخذ على عاتقه أفراح وأتراح مرحلة التحول الصعبة، ما ضرَّ لو عاد إليه الجيل الحالي حيث يجد أن الأمر هو استمرار لنهضة ووصل لما قد انقطع بسبب ظروف سياسية أو اجتماعية طارئة. يسطر تجربته في بدايات البث الإذاعي فيسرد ذكريات لافتة تنمّ عن محاولة الحركة إلى الأمام في مجتمع محافظ، ولكن تتوق نخبته إلى التطوير والحداثة، كان ذلك في آخر رمضان في بدايات البث الإذاعي في الرياض وقد فوجئ مُشرف البث بأن هناك عشر دقائق يمكن أن تكون فارغة، فاجتهد «صاحبنا» باختيار أغنية لسد فراغ الوقت، فكانت أغنية «كليوباترا» لمحمد عبد الوهاب، وتأكد أن على الشريط عبارة «أُجري لها المونتاج اللازم» ثم يفاجأ الجميع بأنه ما زالت بها أبيات يشدو بها عبد الوهاب فيها إشارات «أسمر الجبهة كالخمرة في النور المذاب» إلى آخر المعروف… اشتد اللغط وشُكّلت لجنة التحقيق، ولكن المسألة انتهت كما قال «على خير». العمل في إذاعة وتلفزيون في مجتمع يشهد تحولاً وفيه من وجهات النظر المختلفة وبعضها متشدد هو كالمشي على الحبل المشدود في الهواء، لذلك يرى «صاحبنا» أن المستخلص من قصص تلك الحقبة، وقد رواها بالتفصيل وكانت تجارب البداية كما قال، أنه «لم يكن من المستغرب أن تجد المؤيد والمعارض في البيت الواحد (لنشاط من نشاطات الإعلام) فقد تتلقى اتصالاً ممن ينتقد البرنامج، واتصالاً آخر من البيت نفسه ممن يشجع ويُثني»، كان ذلك من سمات المرحلة، حتى إن تلفزيون الرياض لم يُفتتح بشكل رسمي إلا بعد سنتين من البث!
موضوع المرأة في الإعلام وفي المجتمع يأخذ مكانة في كتاب الشبيلي، ولا يفوت القارئ معرفة أين يقع عقل وقلب الكاتب في هذا الملف، فقد كانت الرئاسة العامة لتعليم البنات تمنع المدارس الحكومية من المشاركة في تقديم برامج الأطفال فوق سن معينة. ثم يقول: وقد اجتمع «صاحبنا» مع الرئاسة لهذا الموضوع! ولكنه لم يفصح عن النتيجة، ويمكن توقعها. يرى أن الفروقات الاجتماعية في مناطق المملكة ساعدت وسائل الاتصال والإعلام في تجسيرها، ويوصف صعوبات دخول الأصوات الإذاعية النسائية المواطنة، التي كانت الأولى في المسيرة أولاً بالصوت ثم بالصورة. الأهمية التي يحملها كتاب المرحوم الشبيلي أنه يقدم لنا سرداً من قِبل شخص عايش بنفسه هذا التحول الكبير دون أن تغريه أي دعوات آيديولوجية، وهذا في تقديري من سمات الجيل الباني للنهضة التي تستمر اليوم كما في السابق بين مؤيد ومعارض، إلا أن الملاحظ أن حجم التأييد يزداد نتيجة عوامل عديدة كما أن حجم المعارضة للتطور الاجتماعي يتقلص.
آخر الكلام:
اليوم هناك العديد من السرد التاريخي لمعاصري النقلة الكبرى التي تمت في المملكة وكثير من ذلك السرد قيّم ومتميز… ما ينقص هو توثيقه والإضاءة عليه… رحمه الله الصديق عبد الرحمن بن صالح الشبيلي.

رابط المقالة https://aawsat.com/home/article/1901111/%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%85%D9%8A%D8%AD%D9%8A/%D8%A7%D8%A8%D9%86-%D8%A8%D8%A7%D8%A6%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%85%D8%B1