د. مشاري عبدالله النعيم | جريدة الرياض

كنت أتحدث مع الدكتور عبدالوهاب بن حفيظة، وهو أستاذ علم الاجتماع في جامعة تونس، وعضو مشارك بشكل دائم في صياغة تقرير التنمية الثقافية العربية التي تصدره هيئة الأمم المتحدة سنويا، ورئيس مسابقة البحوث في الشرق الأوسط MERC حول إشكالات البحث العلمي في العالم العربي، وقد كنا مجتمعين بمناسبة تحكيم البحوث المقدمة للمسابقة في تونس هذه الأيام. لقد قال لي إن متابعته لمقترحات البحوث التي قدمت للمسابقة خلال الخمسة الأعوام الأخيرة لا تبشر بالخير أبدا، فالباحثون أنفسهم لا يعرفون كتابة مقترح للبحث ولا يملكون أي أدوات منهجية تبين قدرتهم على العمل العلمي، ثم قال: تصور أن هذه الدورة تقدم لنا أكثر من 100 مقترح لطلب منح بحثية وبالكاد استطعنا فرز 13 بحثاً صالحاً للعرض على هيئة التحكيم. هذه النسبة مخيفة لأنها تبين أن البحث العلمي في المنطقة العربية في حالة تراجع لا يبشر بالخير. والحقيقة أنني لاحظت هذا الأمر كوني عضوا في لجنة التحكيم في الدورات الثلاث الأخيرة وتبين لي اولا أن هناك ضعفاً عاماً في كتابة مقترحات البحوث وحتى في مواضيعها التي غالبا ما تكون متكررة وبعيدة عن مسألة “الاستشراف” التي عادة ما تكون مسألة أساسية في أصالة البحث العلمي. أما الأمر الثاني فقد لاحظت أن البحوث القوية غالبا ما تكون مقدمة من “الأتراك”، فثلث البحوث التي نقدم لها منحاً تأتي من تركيا وتخوض في موضوعات تمس الشأن التركي (كون المسابقة تشمل منطقة المينا والمقصود هنا منطقة الشرق الأوسط وتركيا) وباقي البحوث من باقي الدول العربية ولا نستطيع أن ننفي هنا أننا نجامل الدول العربية ونريد تحقيق توازن لكن دون جدوى. الأمر الثالث والمحزن حقا أنه لم يفز أي مقترح بحث (في الدورات التي شاركت فيها) مكتوب باللغة العربية، فجميع البحوث التي كتبت بالعربية ضعيفة على مستوى التكوين وعلى مستوى الأدوات البحثية وعلى مستوى المنهجية وعلى مستوى أدبيات الدراسة. هذه الحالة بالذات تثير الشجن وتؤكد أن هناك إشكالية معرفية كبيرة تتزايد يوما بعد يوم دون أن يلتفت لها أحد. فنحن في آخر ركب العالم، والمسألة التي تسبب المرارة أكثر؛ هي أننا مصرون أن نبقى في آخر الصف. لابد أن لهذا الوضع أسبابه، فقد التفت للدكتور عبدالوهاب وقلت له كيف يمكننا قبول هذا الوضع، ولماذا نصر على بقاء الحال هكذا، فقال لي إن المشكلة “تعليمية” بالدرجة الأولى، التكوين المعرفي والتعليمي في العالم العربي في وضع الميؤوس منه ولا يمكن أن نتصور أن ينتج هذا التعليم أناساً لديهم قدرة على التعامل مع مشاكلهم المستقبلية، فسياسة التعليم لدينا “تسكينية” وتفرز مخرجات لا تستطيع القيام بالأعمال البسيطة حتى أن سوق العمل لا يقبلهم بصفتهم المباشرة، ويستثمر فيهم الكثير من أجل تدريبهم، مع أن هذه المهمة كان يفترض أن تتم أثناء التعليم نفسه. المشكلة الكبيرة هي في المؤسسات التعليمية في الوطن العربي التي لا تعي حجم المسؤولية الملقاة على عاتقها، وتركت هذه المؤسسات تنهار خلال الثلاثة عقود الأخيرة بينما العالم كان يتقدم بسرعة مذهلة، فخرجت دول شرق آسيا من “الفقر والتخلف” كي تقود عالم اليوم بينما كنا في حال أفضل منهم بكثير قبل ثلاثة عقود. لقد علق الدكتور عبدالوهاب بقوله: إذن لا تستغرب عندما لاتجد أي بحث عليه القيمة وتكون مقتنعا بشكل كامل أنه يستحق المنحة لأن “الجود من الموجود”، والبحوث التي نقوم بتحكيمها الآن تعبر عن الحالة المتردية التي وصلنا لها. ومع ذلك يجب أن أقول لك: إنه يجب علينا العمل من أجل التغيير، يجب أن لا نستسلم لهذه الحال، لأن مصيرنا ومستقبلنا متعلق بها. المشكلة من وجهة نظري تبدأ من التصور العالم لفكرة “التكامل” التي يجب أن يبنى عليها “المجتمع الحديث”، ولعل مفهوم “اقتصاد المعرفة” الذي بدأ ينتشر في الوقت الراهن يوضح مفهوم التكامل المطلوب، لأنه لا بحث علمي دون حاجة لهذا البحث، ولا يمكن أن يتطور التعليم لمجرد تزويد سوق العمل بموظفين، بل يجب أن يكون هناك “اقتصاد” قائم على التعليم والبحث العلمي وأقصد هنا أن تقوم محركات الاقتصاد على مواصفات تعليمية محددة تجبر المؤسسة التعليمية على التغيير. ولعل هذا التكامل هو المفقود على مستوى العالم العربي، فالمؤسسة التعليمية تعمل في اتجاه ليس له علاقة بالحاجة الاقتصادية، والبحث العلمي مجرد “ترفيه” لأنه أصلا لا يعالج مشاكل مهمة ولا يركز على تفوق “صناعي” أو “معرفي” نسعى له، فلماذا نقوم بالبحث العلمي إذا. ربما أستعين هنا بتصريح مدير جامعة الملك سعود مؤخرا الذي قال فيه بأن جامعته نشرت 1000 بحث خلال عام، بينما أقرب منافس لها لم ينشر سوى 43 بحثاً. هذه الحقيقة المرة تبين مرة أخرى أنه لا يوجد هدف واضح من البحث العلمي، فلماذا نشرت جامعة الملك سعود هذا العدد من البحوث ولماذا لم تنشر غيرها من الجامعات، هذا علمه عند الله. وعندما نبحث المسألة أكثر ونحاول أن نفهم تأثير هذه البحوث في المجتمع وعلى اقتصاده سوف نكتشف الكثير من “الفوضى” المعرفية التي تدور فيها مؤسسات التعليم التي يبدو أنها فقدت البوصلة تماما. الأسئلة التي تم طرحها اثناء تحكيم البحوث في تونس هي: هل يجب أن يقود التعليم الاقتصاد أم أن الاقتصاد هو الذي يقود التعليم؟ والحقيقة أن هذه الاشكالية غير مطروقة كثيرا في العلم المتقدم، فقد تم حسم هذا الأمر من خلال فكرة “الشراكة” و”التأثير المتبادل” فنحن لانتوقع أن يتطور التعليم دون اسباب واضحة ومع ذلك فغالبا ما يقود التعليم إلى التطور في كافة مناحي الحياة وغالبا ما يصنع “اقتصاداً” قوياً قائماً على “الطاقة البشرية” التي تعد هذا اليوم هي “الطاقة” الحقيقية التي تعتمد عليها الأمم في بناء مستقبلها، بينما يمثل الاقتصاد محفزاً في تطوير التعليم وبناء مشاريع بحث علمي لها مردود اقتصادي، نستطيع أن نقول إن الاقتصاد يبرر جدوى التعليم والبحث العلمي لكنه لايمثل كل شيء. لقد خرجت من هذا الحوار بأننا نعيش فراغاً في “الرؤية” العامة للمستقبل فيما يخص التعليم والبحث العلمي ودورهما في بناء المجتمع واقتصاده، فعلى ما يبدو نحن نبحث عن معجزة كي نتطور ولا نريد أن نصنع هذا التطور بأنفسنا، فعيوننا ممتدة دائما للآخر الذي نريده أن يساعدنا وينتشلنا مما نحن فيه.