د.عبدالحميد الانصاري | جريدة الجريدة الكويتية
قليلون في عالمنا العربي من عندهم الجرأة على توثيق تجاربهم ومعايشتهم الشخصية المرتبطة بأحداث ووقائع تاريخية، ساهموا فيها، بحكم مسؤوليتهم الوظيفية العامة.
هذا على المستوى العربي، أما على المستوى الخليجي فلم أَجِد ما يماثل عمل السفير عبدالله بشارة في كتابه “يوميات الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية 1981- 1993″، ومن هنا فالكتاب يمثل حدثاً استثنائياً في البيئة الخليجية، وهذه إحدى ميزات الكتاب، إلا أنه في الوقت نفسه إحدى إشكالياته وبخاصة في مناخ اعتاد العمل بأسلوب الصمت والكتمان، أو “سياسة الأدب الجم” طبقاً لبشارة.
الأزمة الخليجية، طالت وأزمنت، وأضعفت فعالية العمل المشترك، وفرقت الشعب الخليجي، وأضرمت حملات التراشق الإعلامية المتبادلة.
كثيرون، عرباً وغير عرب، كتبوا وأفاضوا، مقالات قليلة شخصت الجذور العميقة للأزمة، أهمها مقالة “مجلس التعاون الخليجي في مواجهة أسئلة التغير الحتمي” د. محمد الرميحي، أجاد الطرح والتشخيص، حين صورها آخرون صراعاً بين المدافعين عن ثورة الربيع وأعدائها!
يأتي كتاب السفير عبدالله بشارة الصادر قبل 15 عاماً، عن المركز الدبلوماسي للدراسات الاستراتيجية، ليسلط الأضواء على الأعماق البعيدة للخلافات الخليجية، ولكونه أول أمين عام للمجلس، عاصر مخاضات الولادة، ورعى مسيرة امتدت 12 عاما، وعايش القادة المؤسسين، فإن كتابه يكتسب أهمية استثنائية، من المهم للكتّاب المعنيين بالشأن الخليجي الاطلاع عليه.
منذ البدايات في يومياته (705 صفحات)، يشخص بشارة طبيعة الخلافات الحدودية التاريخية المعلقة بدون حل بين الدول الأعضاء، ويحذر من تداعياتها السلبية، بدءاً من قضية (حوار) التي عجز المجلس عن حلها، فاضطرت قطر لرفعها إلى العدل الدولية 1991 لتفصل فيها 2001، ثم أزمة مخفر “خفوس” الحدودي سبتمبر 1992، وكانت من أكبر التحديات التي كادت تعصف بالمنظومة التعاونية، كون قطر اتهمت الأمانة بالانحياز وقاطعت اجتماعاتها، وسحبت قواتها من درع الجزيرة، وهددت بعدم حضور قمة (أبوظبي) ديسمبر 1992 لكن لطف الله تعالى تدارك الجميع، فبعد جهود مضنية من القادة الخليجيين، ووساطة من الرئيس المصري حسني مبارك في آخر يوم قبل القمة، تم إقناع قطر بالتوقيع على اتفاق المدينة، وحضور القمة، ولكن تداعياتها السلبية انعكست على مجمل عمل المجلس ومصداقيته.
يصف بشارة بالتفصيل في يومياته الممتعة، الفترة العصيبة بين أزمة الخفوس وموعد القمة (شهران و20 يوماً) وكيف استنفرت الأمانة العامة جهودها، عبر الرحلات المكوكية بين العواصم الخليجية لمقابلة القادة والمسؤولين، في محاولات لرأب الصدع واحتواء الوضع وتهدئة الحملات الإعلامية، وترطيب الأجواء المشحونة، وقد عنون لأزمة الخفوس، ببيت رائع يترجم حال العرب وأوجاعهم (كلما داويت جرحاً… سال في الوديان جرح)، من القصيدة الرائعة “بات ساجي الطرف” للمبدع “ابن النحاس الحلبي” تغنى بها كبار مطربي الجزيرة والخليج (طلال مداح، محمد عبده، محمد مرشد…) واستوحاه ناجي في الأطلال “وإذا ما التأم جرح … جد بالتذكار جرح”.
يقول بشارة، إن أمير قطر الشيخ خليفة، رحمه الله تعالى، عندما نزل من الطائرة في مطار أبوظبي، وسلم على الشيخ زايد، رحمه المولى تعالى، بحرارة، وجه كلامه إليّ قائلاً: هل يوجد نوخذة يمشي بخمسة بحارة ويترك البحار السادس؟! قالها تحت الطائرة، الحمدلله قالها وهو يضحك.
في تصوري أن أزمة “خفوس” وتداعياتها المريرة على نفسية الجانب القطري، هي أحد الدوافع التي جعلت قطر تتجه إلى سلوك اجتهاد سياسي مستقل، ضمن النظام الخليجي، سمي “التغريد خارج السرب” وهي البعد التاريخي الغائر للأزمة الخليجية الحالية، بقيت مفاعيلها السلبية في النفوس، ولم يتمكن المجلس من مداواة آثارها.
ختاماً: لم يمر على الخليج أزمة أقسى وأعنف من الأزمة الحالية (د. أحمد عبدالملك) الجسم الخليجي يعاني ويئن، لكن الأمل مستمر على حكيم الخليج أمير الكويت ومبادراته، وفقه المولى تعالى، ولكن لا بد من تحرك نشط لمنظمات المجتمع المدني الخليجي، وتفعيل اقتراح النائبة صفاء الهاشم، تشكيل وفد رفيع المستوى من رؤساء البرلمانات ومجالس الشورى الخليجية، يقوم بلقاء قادتنا لتوصيل رسالة الخليجيين مباشرة.
رابط المقالة http://www.aljarida.com/articles/1550420076430694400/