محمد الرميحى | الشرق الأوسط

مع بداية رمضان، انتشر جدل على وسائل التواصل الاجتماعي، في المحيط الثقافي لدول الخليج، حول تراجع بعض الدعاة الذين نشطوا فيما عرف بـ«الصحوة» عن أفكارهم السابقة، البعض سماها «توبة». وانقسم المتدخلون بين تقريع لأولئك الدعاة على ما قاموا به من تضليل للشباب أودى ببعضهم إلى التهلكة، ومتقبل لـ«توبة» من عاد إلى جادة الصواب. هذا التراجع يطرح سؤالاً مركزياً هو: لماذا يختار بعض الناس فعل الشر؟ وهو سؤال إنساني لا يقف أمام تجربة العنف العربي، ولكنه يمتد إلى فعل العنف البشري. فعل الشر ظاهرة بشرية ضربت كثيراً من الثقافات، وما زالت تفعل حتى اليوم، فكما أن أبناء البشر أذكياء فهم أيضاً عنيفون، تلك ثنائية خضعت لعدد وافر من الدراسات المعمقة على الأقل منذ الحرب العالمية الثانية. كان البحث يجري لمعرفة أي نوع من التوترات يحرك العنف ويدفع الإنسان إلى فعل أمور «بغيضة» خارج ما تتصف به النفس الإنسانية العاقلة، هل ذلك التوتر الذي يحرك العنف في الإنسان عصبي – نفسي؟ أم هو اجتماعي – ثقافي؟ يميل كثير من الدراسات إلى ترجيح الاحتمال الثاني (الاجتماعي – الثقافي)، حيث إن مرتكب العنف، بشكل عام، يعتقد أنه يدافع عن «القيم المركزية في مجتمعه» وكل من يخالف تلك القيم هو شرير، كما قال البعض إن «كل الغربيين أنجاس أو كل المسلمين إرهابيون». لقد ابتليت المنطقة والعالم المسلم في الثلث الأخير من القرن الماضي بموجة من الفتاوى، رسخت مركزية قيم محدودة، التي تضع الآخر المختلف في موضع العدو، وضاقت حلقة «الآخر» حتى أصبحت المواطن أو الجار أو حتى الوالدين، مستفيدة من اندلاع أشكال من الصراع من جهة، ومن تدنٍ في الوعي العام من جهة أخرى، هي ردة فعل وجدانية مفرغة من العلم الصحيح وحتى العاطفة الإنسانية، شعارها يجب «تطهير الأرض من كل المخالفين»! دون دراية أو معرفة بالعالم المحيط وتعدد الثقافات فيه، ربما تضاف إلى ذلك «النشوة» في طلب الشهرة للقائد «الصحوي» الذي يستخدم لغة سليمة مدعومة بقصص منتقاة من التراث، وقدرات فعالة في التواصل الاجتماعي واحتضان سياسي، مكنه كل ذلك من تقديم مجموعة من «القيم» رفعت إلى مرتبة «العقائد»، وكما فعلت أي حركة فاشية بالمعنى الحديث، رسمت تلك الجماعات خطوط المحرمات، كما فعلت النازية من قبلها، فقد كان تشويه صورة الزعيم النازي كفيلاً برفع المسدس في وجهة الناقد والتصويب عليه في الحال واللحظة!
خلق المحرضون قيماً بذاتها قطعية الدلالة من أجل أن يعتنقها المريد، وخلفت لديه آلية دفاع نفسية مصدرها القلق على تلك القيم، قد لا يظهر القلق مباشرة على المريد، ولكنه يبقى قابعاً في نفسه يظهر عند الحاجة ومع وجود المثير المناسب، وقد تكون ردة الفعل على «القلق على تلك القيم» لفظية أو سلوكية أو عنفية. لم يترك مفجر مسجد الصادق في الكويت قريته، ولم يعرف الكويت، ولم تكن له سوابق، غير أنه مشبع بالقلق على القيم التي خلقها «شيوخ الصحوة» في نفسه، فأصبح الشاب الورع – كما اعتقد والداه – قاتلاً للأبرياء حتى دون أن يعرفهم. بعض مفجري سريلانكا مؤخراً ليسوا من الجماعة المحرومة، كل ما احتاجوه هو الوقوع تحت تأثير داعية أثار لديهم القلق المرضي على قيم، رسمها هو بمحدودية فهمه، قادتهم إلى أن المجتمع الذي يعيشون فيه إنما هو مجتمع «كافر»، وأن الانتقام يكون بتفجير مصلين من ديانات أخرى! طاعة القيادة والاستجابة إلى الأوامر التي تقدم على أنها «ربانية» إحدى الأدوات الفعالة، وقد سمعت قصة مباشرة من أحد الدعاة، حدثني ذلك الداعية في ساعة صفو أن أحد أتباعه تزوج واختلى بزوجته، ثم اتصل به في حيرة قائلاً: «أنا في مخدع الزوجية، ولكني نسيت (دعاء الدخول)»! لو لم أسمع القصة من ذلك الداعية بلسانه ورواها أحد لي لكان مستوى تصديقي لها منخفضاً، إلا أنها الحقيقة؛ الطاعة العمياء «في المنشط والمكره»، وهي حقيقة حذر منها كثيرون في مجتمعنا في وسائل الإعلام، في السنوات القليلة الأخيرة أن أنقذوا أبناءنا من اتباع ذلك التضليل. استخدم المحرضون أسلوباً آخر في التجنيد والتغرير بالشباب، وهو ما يعرف بـ«مجموعات الانتساب» وهي منهجية معروفة في كل التجمعات العصبوية، من القمصان السود (في الحالة الفاشية) التي تتكرر في بعض مدننا العربية اليوم، إلى القمصان البنية (الحالة النازية) حتى «القمصان الصفراء» أخيراً في فرنسا! هي حالة من الشعور الجماعي داخل الجماعة والفرد، فيها يضبط سلوكه بناء على الآخر، تجمعات البر في الخليج كانت ظاهرة تحدث أمام أعين المجتمع، وتجمعات الدروس، كانت كلها تهدف إلى غرس مستوى عالٍ من القلق على «القيم» في نفوس الأتباع، وتخزن حتى يأتي أجلها في التنفيس بشكل عنفي في مكان أو آخر، الحقيقة العلمية أن «القلق على القيم» محفز إنساني يحمل شحنة من الانفعالات التي يمكن أن توظف وتفقد المريد قدرته على التفكير، ما يتم اليوم في بعض دول الغرب هو شيء من القلق على القيم، وهو ما يدفع بعض مجتمعات الغرب إلى اليمين والتطرف ضد الآخر، حتى في بلاد عرفت بالتسامح مثل بريطانيا، فإن حملة الخروج من أوروبا تمثل شيئاً من الخوف على القيم. وقد يكون القلق على القيم مصطنعاً. وقد سبب ذلك في بعض المجتمعات حروباً أهلية، كما حدث في رواندا أو البوسنة.
لقد برع دعاة «الصحوة» في خلق تلك البيئة النفسية الاجتماعية التي تجعل من السهل ربط التعاطف من داخل الجماعة، على حساب ما هو خارج الجماعة، ويمكن بعدها أن يُستهدف ذلك الخارج عدواً، ذلك ما يجعل التعاطف الإنساني الأوسع عند أفراد الجماعة يتآكل، كما يقول عالم النفس سايمون بارون، وتقبيح طرق وسلوك ومفاهيم الآخر، وهي طريق تقود إلى العنصرية ومن ثم العنف. في تقديري، إن شيوخ الصحوة ما زالوا فاعلين في مجتمعاتنا، والتعاطف مع أطروحاتهم السابقة ما زال كامناً، حتى إن تراجع بعضهم عما قال ودعا إليه في السابق، هو بقاء في الساحة وتحين للفرص، لأن الاتباع أو خميرة الاتباع ما زالت جاهزة، بل يزيدها جهوزية ما يقدم لها من محتوى برامج دراسية وإعلامية، وما تفرزه وسائل التواصل الاجتماعي من غث، تسبب فيما يعرف بالصدع الإدراكي الذي لازم كثيرين وما زال حتى الساعة، وجاء من أسس له اليوم ليتوب!
آخر الكلام: تجفيف بحيرة الصحويين هو إعادة النظر الجدية في «القيم المركزية» التي نعلمها في مدارسنا ونشيعها في إعلامنا.

رابط المقالة https://aawsat.com/home/article/1716541/%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%85%D9%8A%D8%AD%D9%8A/%D8%B9%D9%88%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D8%B1%D9%83%D8%A9