على مدار عقود طويلة حرصت السعودية على إيفاد بعثات تعليمية للعديد من دول العالم بهدف مواكبة التقدم العلمي ونقل الخبرات والتكنولوجيا العالمية إلى المملكة.

وأولت السعودية منذ تأسيسها اهتماما كبيرا بالتعليم، ومن أجل ذلك سارعت إلى افتتاح المدارس والمعاهد والجامعات، واستحدثت برامج الابتعاث التي تمكن الطلاب السعوديين من الالتحاق بالجامعات العربية والعالمية، فمتى بدأ العمل به؟ ولماذا حرصت المملكة على الاستمرار فيه رغم النقلة الكمية في عدد الجامعات الحكومية والخاصة؟

بدايات الابتعاث السعودي
وللابتعاث السعودي تاريخ طويل، مر بالعديد من المراحل بداية من عام 1927 عندما أمر الملك الراحل عبد العزيز آل سعود بإرسال عدد محدود من الطلبة للدراسة في الخارج، حيث بدأت أولى البعثات التعليمية السعودية إلى مصر وضمت 14 طالبا.

وتخرجت أول دفعة عام 1935م، واستمرت بعد ذلك البعثات إلى لبنان وبعض الدول العربية، ثم توالت البعثات بعد زيادة موارد الدولة.

وقد شهد العام 1936 البداية الفعلية للابتعاث الرسمي للطلبة السعوديين إلى أوروبا، بينما كانت أول دفعة سعودية رسمية تخرجت في الجامعات الأميركية عام 1952، وضمت 9 طلاب فقط، 3 لدراسة البكالوريوس، و6 لدراسة الماجستير، لتتوالى البعثات بعد ذلك بأعداد محدودة حتى وصل عدد المبتعثين في نهاية الستينيات الميلادية إلى 192 طالبا.

قفزة في أعداد المبتعثين
وخلال فترة السبعينيات التي شهدت التخطيط الاقتصادي للدولة، تضاعف أعداد المبتعثين السعوديين إلى الولايات المتحدة وحدها وبلغ عددهم 800 مبتعث عام 1974م، قبل أن يقفز الرقم بعد مرور عام واحد إلى نحو 2039 مبتعثا.

وتشير الأدبيات المتوفرة في ملحقيات البعثات التعليمية السعودية في الخارج، إلى أنه في عهد الملك الراحل خالد بن عبد العزيز (1975 – 1982) ازداد عدد الطلاب المبتعثين، خاصة إلى أميركا ووصل إلى 11 ألف مبتعث ومبتعثة، وخلال عهد الملك السعودي الراحل فهد بن عبد العزيز (1982 – 2005) تضاعفت أعداد المبتعثين، تركيزا على ابتعاث الطاقم الأكاديمي في الجامعات السعودية وموظفي الدولة.

وقد شهد الابتعاث التعليمي السعودي نقلة كمية ونوعية مهمة تمثلت في إطلاق برنامج الملك عبد الله للابتعاث الخارجي الذي بُدء العمل به عام 2005 م، ويعد أضخم برنامج ابتعاث في تاريخ المملكة والأضخم على مستوى العالم.

وقد بدأ البرنامج بالابتعاث إلى الولايات المتحدة، ثم توسعت قاعدته وشملت جميع الدول المتقدمة وبلغ عدد الطلاب والطالبات المبتعثين قرابة 150 ألف مبتعث ومبتعثة.

وفي الآونة الأخيرة اتخذ البرنامج خطوات، استحدث معها الابتعاث لتخصصات مواكِبة لحاجات سوق العمل السعودية.

قيمة مضافة
ويقول إبراهيم البعيز الأكاديمي السعودي ورئيس قسم الإعلام السابق بجامعة الملك سعود إن للسعوديين على المستويين الحكومي والشعبي تجربة ثرية مع الدراسة في الخارج. فالابتعاث معلم بارز في السياسة التعليمية للمملكة طيلة الـ8 عقود الماضية.

ويشير البعيز، في تصريح للجزيرة نت، إلى أن السعودية سعت إلى تعزيز الفرص التعليمية لتأهيل الكادر البشري بالاستفادة من الفرص المتاحة في الخارج. وكانت البداية في مصر ولبنان، حيث كانت الريادة التعليمية والثقافية على المستوى الإقليمي، لكن ما لبث أن تحول الابتعاث إلى الدول الغربية ممثلة في بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة، للاستفادة من التطور العلمي بالعالم الغربي.

ويرى أن سياسة الابتعاث التي تبنتها الدولة طيلة العقود الماضية وجدت إقبالا من المجتمع السعودي، وانعكس هذا الإقبال بأن احتلت السعودية مرتبة متقدمة في أعداد الطلاب الدارسين بالخارج في كل من بريطانيا (المرتبة الثالثة في عدد الطلاب من خارج الاتحاد الأوروبي)، والولايات المتحدة (المرتبة الرابعة في عدد الطلاب الأجانب).

وإلى جانب أهمية وقيمة الابتعاث في التأهيل المهني والعلمي للمبتعث، يرى الأكاديمي السعودي أن هناك “قيمة مضافة” للابتعاث تتمثل في تعزيز قيم ومهارات الاتصال الثقافي والانفتاح على الآخر، مشيرا إلى أن مثل هذه القيمة لم تغب عن المخططين لسياسات التعليم في السعودية.

البعيز: الدراسة في الخارج سمة من سمات الانفتاح العلمي ومؤشر للحرص على التنمية المستدامة (الصحافة السعودية)
ويؤكد البعيز أن الدولة حرصت على الاستمرار في الابتعاث على الرغم مما شهده التعليم العالي من نقلة كمية في عدد الجامعات الحكومية والخاصة، وتعدد الجامعات السعودية المتخصصة مثل جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، وجامعة الملك سعود للعلوم الصحية، وصعود متتابع لترتيب جامعات سعودية في التصنيفات العالمية.

تأهيل الكوادر العلمية
ويرى البعيز أنه رغم تركز تجربة الابتعاث السعودية على التخصصات العلمية والهندسية والطبية، وفي الدراسات العليا، إلا أن ذلك لم يكن على حساب التخصصات الأخرى (بما في ذلك الدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية) والتي تصل نسبة المبتعثين فيها إلى 36%، ولم تكن أيضا على حساب الدراسة في المرحلة الجامعية التي تصل نسبة المبتعثين فيها إلى 48%، مما يشير الى توازن ملحوظ في التخصصات والمراحل الدراسية.

كما يلفت إلى أن سياسة الابتعاث السعودي اتسمت بالتوازن النسبي بين الجنسين، حيث تصل نسبة الطالبات إلى 43%، وهذه نسبة مرتفعة من مجتمع يوصف بالمحافظة اجتماعيا.

وفي ختام تصريحه يؤكد البعيز أن الدراسة في الخارج سمة من سمات الانفتاح العلمي ومؤشر للحرص على التنمية المستدامة، ولا يعني إطلاقا ضعف في المؤسسات الأكاديمية المحلية، ومن الشواهد على ذلك تنامي أعداد الطلاب الدارسين في الخارج، من الدول المعروفة بالتقدم العلمي، حيث يأتي طلاب الصين والهند وكوريا الجنوبية وكندا في المراتب الخمس الأولى في أعداد الطلاب الأجانب في أميركا، كما يأتي الطلاب الأميركيون في المرتبة الثالثة في أعداد الطلاب الأجانب ببريطانيا.

سياسة الابتعاث السعودي اتسمت بالتوازن النسبي بين الجنسين، حيث تصل نسبة الطالبات إلى 43% (رويترز)
من جهته يؤكد المستشار التعليمي السابق للبعثات السعودية في كندا والولايات المتحدة والعميد السابق لكلية التربية بجامعة الملك سعود الدكتور خالد فهد الحذيفي أن الابتعاث كان له فوائد كثيرة على مدار العقود الماضية أهمها تمكين الدولة من الاستثمار في الطاقة البشرية وتهيئة جيل يجيد التعامل مع الآخر.

الكيف وليس الكم
ويرى الحذيفي، في تصريح للجزيرة نت، أن هذا المشروع التعليمي الضخم انعكست آثاره على مستويات كثيرة داخل المملكة وساهم في دفع مسيرة التعليم، وارتفاع معيار الكفاءات العلمية، وتطور سوق العمل، وتعدد فرص الاستثمار وتوافر التخصصات المهمة والحيوية.

ودعا الحذيفي إلى ضرورة أن تشهد برامج الابتعاث مستقبلا نوعا من التقنين عبر الاعتماد على “الكيف” وليس “الكم”، موضحا أنه يجب إيفاد الدارسين إلى الجامعات المميزة عالميا والتركيز على التخصصات الحيوية مما يسمح للمبتعث بتطوير مهاراته والتميز في تخصصات مهمة.

وأكد الحذيفي أن الابتعاث ضرورة مهمة لمسايرة العالم في ظل التقدم التكنولوجي الذي يتسارع بقوة في مجالات الطب والهندسة وغيرها، مشددا على أنه “ما لم يتم مواكبة ذلك سـنتأخر عن اللحاق بركب الأمم المتقدمة”.

وأوضح الأكاديمي السعودي أن استمرار البعثات التعليمية إلى الخارج وإعداد الكوادر في مختلف التخصصات وتهيئة المناخ المناسب لهم سيجعل من المملكة في المستقبل مركزا لاستقبال البعثات خاصة من الدول المجاورة والإسلامية، خاصة في ظل توفر الإمكانيات اللوجستية والكوادر البشرية.

رابط التقرير على موقع الجزيرة نت