د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري | صحيفة الرؤية – عُمان

ذكرتُ فيما مضى أن أهداف التعليم الديني -عامة- تتلخَّص في تعميق انعزالية الطالب عن الحضارة المعاصرة؛ كونها غربية علمانية صليبية إباحية تستهدف الإسلام والمسلمين، وغرس مشاعر التعصب للمعتقد أو المذهب المعتمد من الدولة، وزرع ثقافة الكراهية تجاه الآخر المختلف مذهباً أو ديناً، وترسيخ النظرة الدونية للمرأة، وتضخيم أعلوية الرجل.

إذن، ما الهدف الأعلى للتعليم الديني؟

الهدف الأساسي لمناهج التعليم الديني هو “التحصين” الديني والثقافي للطالب تجاه “الغزو الثقافي” الغربي، وتحصينه من الفكر الفلسفي والمذاهب الإلحادية والمعتقدات الضالة، وتقوية مناعته أمام شبهات المستشرقين والمشككين والتبشيريين والشيوعيين والعلمانيين والعولمة.

فكرة التحصين، ثقافة عربية بامتياز، نابعة من عقلية جمعية تضفي التقديس على شخصيات وأحداث تاريخية ومعتقدات وآراء، تريد صيانتها من النقد، خشية التشكيك وإثارة الشبهات حولها. وقديما أجمع فقهاء السنة على تحصين ما جرى بين الصحابة من نزاع واقتتال على السلطة، ونهوا الخلف عن تقويم ما حصل، ولو من باب العظة والاعتبار، وحجتهم أن ما شجر بينهم من خلاف، نسكت عنه والكل مجتهد، وهم عدول، والله غفر لهم، وهكذا تم تحصين مرحلة كاملة من تاريخنا، لكن المودودي في كتابه “الخلافة والملك” شذ عن هذا التوجه، ورفض تحصين سلوكيات الصحابة، وأجرى دراسة نقدية أغضبت الإسلاميين، وقال إن عدالة الصحابي لا تعني حصانة تصرفاته من النقد.

أوهام التحصين:

منذ خمسينيات القرن الماضي، حين كتب د. محمد محمد حسين “حصوننا مهددة من الداخل” في مجلة الأزهر، يهاجم فيها رموز الحداثة والتنوير في مصر، ويصف طه حسين بأنه من رموز الهدم والانحلال والتغريب، وحتى العقد الأول من هذا القرن؛ حيث أجازت لجنة من كبار علماء السعودية، رسالة دكتوراة “الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها” كفر فيها صاحبها 200 مفكر وكاتب ومثقف وشاعر، وصفهم برموز العلمنة والزندقة، وإلى أيامنا هذه، وعبر سبعين عاماً والمناهج الدينية تحشو أذهان طلابها بما تصورته تحصيناً لهم من الغزو الثقافي الغربي “العلماني والاستشراقي والتنصيري والإلحادي”، لكن الغزو جاء من الداخل، من بين أيدينا وأظهرنا، انفجر بركان إرهابي مدمر، أهلك الحرث والنسل، ليكشف أوهام التحصين.

لم يأتِ الخطرالمهدد من الليبراليين ولا العلمانيين ولا الشيوعيين ولا من رموز الهدم والانحلال، كما زعم صاحب “حصوننا مهددة من الداخل”، والآخر التكفيري صاحب “الانحراف العقدي”، لكن من أبنائنا الذين ربَّيناهم على أعيننا، ورضعوا من ثقافتنا، وتعلموا في رحاب مدارسنا ومنابرنا الدينية والثقافية، ثم خرجوا علينا كارهين ناقمين مفجرين!

لماذا فشل التحصين الديني؟

لأنَّه اعتمدَ خطاباً تكفيريًّا لكل من صنفهم أعداء من الليبراليين والعلمانيين والاستشراقيين والتبشيريين والشيوعيين والإلحاديين، وزرع “الكراهية” في نفوس طلابه تجاههم، وعندما تزرع الكراهية في نفوس أبنائك، تفقدهم، وقد تكون إحدى ضحاياها، فإنك لن تجني من الشوك العنب “الكراهية” منبع الشرور كلها، وهي المولدة للعنف.

الإخفاق الأكبر:

وعندما تخرِّجت آلاف المدارس الدينية -بباكستان، مروراً بطالبان واليمن وحتى بوكو حرام- مليون مجاهد، كان مَثَلُهم الأعلى بن لادن، حتى بعد موته! فهذا هو الإخفاق الأكبر للتحصين الديني والثقافي الذي كانت محصلته بعد سبعين عاماً إنتاج قنابل بشرية وضواري متعطشة لسفك الدماء وتفجير المساجد!

أخيراً.. لن يكون التحصين مُجدياً بالتحذير من الغزو الثقافي، والعولمة، والعلمانية، والمؤامرات العالمية، والرد على شبهات الأعداء والمشككين، وتشويه رموز الحداثة والتنوير، وإنما بتعزيز مناعة طلابنا تجاه فكر الغلو والتشدد والتعصب والتطرف والإقصاء والتكفير والتخوين، وبالانفتاح والتفاعل مع العالم، الثقافات الوافدة ليست غزواً.

ولن يتحقق التحصين بكثرة الشكوى ولوم الآخر، واتهامه بتردي أوضاعنا، ولن ينفعنا التظاهر بأننا مستهدفون وضحية لمؤامرات، ما أصابنا بما كسبت أيدينا، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

 

رابط المقالة alroya.om/post/247562/أوهام-التحصين-الديني