د. عبدالخالق عبدالله | العرب

تتعرض الدولة الوطنية في المنطقة العربية في الوقت الراهن لمحاولات تفكيك وتفتيت متواصلة مصدرها كيانات شمولية لا تعترف بالجغرافيا القطرية نتيجة قراءات ماضوية للتراث، وهو ما يفرض ضرورة الدفاع عنها والتمسك بها باعتبارها الخيمة الأخيرة الجامعة لجميع المواطنين. ويقر الدكتور علي راشد النعيمي في كتابه “الدولة الوطنية صناعة النهوض”، أنه لا مستقبل لاستمرار هذه الأمة دون الحفاظ على الدولة الوطنية وصيانة وحدتها وتدعيم بنيانها، ولا يتم هذا إلا عبر التعامل مع قضايا الحاضر بإتاحة الفرصة للاجتهاد والإبداع، وإعمال العقل واستعادة الفلسفة وترسيخ نهج البرهان والمدرسة العقلانية وإيلاء التعليم كعمل مستقبلي ما يستحقه من اهتمام.

تعطي القراءة الأولى لكتاب الدكتور علي راشد النعيمي الجدي بعنوان “الدولة الوطنية صناعة النهوض” الانطباع بأنه من كتب أدب السيرة الذاتية الذي أخذ ينتعش كإنتاج أدبي جديد عربيا وإماراتيا. لكن القراءة النقدية المتأنية للكتاب تكشف عما هو أهم وأعمق من كونه مجرد كتاب من كتب السيرة الذاتية التقليدية.

فكتاب الدولة الوطنية هو كتاب فكري بامتياز يعالج قضايا معاصرة شائكة بلغة مبسطة ومباشرة ومقنعة وحتما مثيرة للجدل. وتأتي أهمية هذا الكتاب كونه الأول من نوعه ككتاب فكري يصدر في الإمارات، ويكون للدكتور النعيمي السبق في هذا المجال ليعيد بذلك التذكير بسبق والده صاحب أول رواية إماراتية بعنوان “شاهندة” التي صدرت سنة 1971.

ومما يعزز الانطباع الأول بأن كتاب الدولة الوطنية هو من كتب السيرة ما يؤكد عليه الدكتور علي أنه يضع بين يد القارئ خلاصة تجربة شخصية صعبة، معجونة بخبرة عملية ومعايشة مؤلمة لتحولات سياسية وفكرية عايشتها المنطقة العربية لأكثر من 40 سنة (الصفحة 10).

وإلى جانب سرد سريع في المقدمة لمراحل تشكل وعيه وفكره، يذهب المؤلف سريعا بالقارئ إلى أبعد من الخواطر الذاتية، ليتناول موضوعات معاصرة وجادة وضخمة يسعى لتفكيكها ويحرك الساكن في الساحة الفكرية الإماراتية ويتواصل مع ساحة فكرية عربية تعج بتيارات فكرية متناحرة.

أهمية الدولة الوطنية

لا يخشى الدكتور النعيمي من ردود الفعل على مقولات وطروحات كتابه، ولا يتردد في خوض الجدل الفكري وإثارته، بل يبدو أنه يتعمده بوعي وإصرار خاصة وأن القضية المحورية لها علاقة بموضوع الدولة الوطنية التي تتعرض حاليا إلى التفكيك والتفكك، وبجدل التراث بما فيه من حمولات وصراعات تعيق تقدم الأمة، وبثوابت الدين والتدين التي تمكنت ثلة من فقهاء هذا الزمان من اختطافها والعبث بها.

يقرر الدكتور النعيمي التصدي لهذه القضايا الساخنة عبر خمسة عناوين كبرى تحتل خمسة فصول في الكتاب: وهو أولا، يقدم نفسه مدافعا قويا عن مشروع الدولة الوطنية مؤكدا أن الولاء والانتماء لها يفوقان أي انتماء وولاء آخرين، وهو ثانيا يتقمص دور المحامي الذي يحمل لواء إسلام الاعتدال والتسامح وإسلام التعدد، وهو ثالثا يقدم نفسه دون مواربة كناقد مطلع لما في التراث والتاريخ العربي والإسلامي من سلبيات تراكمت عبر القرون وحان وقت فضفضتها، كما يتقدم الدكتور النعيمي رابعا الصفوف في التصدي لعبث تنظيم الإخوان المسلمين وزجهم بشباب الأمة في دوامة التطرف والعنف والإرهاب، وأخيرا يجد الدكتور النعيمي نفسه رافعا شعار إصلاح التعليم كمدخل لصناعة نهوض الأوطان مستشهدا بخبرة دولة الإمارات في حقل إصلاح التعليم الذي أخذ يشدد على قيمة التسامح والتعددية. إن أكثر ما يميز كتاب الدولة الوطنية أنه يسمي الأشياء بمسمياتها دون لف ودوران.

ويقول الدكتور النعيمي إن الدولة الوطنية هي أكبر ضحية لفوضى الربيع العربي والدفاع عنها فرض عين وفرض كفاية على كل مواطن ينتمي لها (الصفحة 18). كما أنه يصف السلطنة العثمانية بالإمبراطورية الاستعمارية التي لا تختلف في ما أحدثته من دمار وتخلف وانغلاق عن أي قوة استعمارية غاشمة (الصفحة 19).

التأكيد على أهمية التعددية والتسامح

وللدكتور النعيمي موقفه الواضح كل الوضوح من شعار دولة الخلافة، ففي تقديره أن هذا الشعار تضليل وتزييف ديني وتاريخي (الصفحة 28). وبكل أمانة المفكر الوطني الغيور يؤكد الدكتور النعيمي أن الدين وحده لن يجمعنا، والمذهب وحده لن يجمعنا، والعرق وحده لن يجمعنا، فالذي يجمعنا ويحقق لنا الاستقرار والأمن والتنمية والازدهار هو الدولة الوطنية (الصفحة 45).

هكذا يتحدث الدكتور علي بأكبر قدر من الصراحة في هذا الكتاب الغني في مرافعاته واعترافاته التي قد يتفق معها البعض ويرفضها البعض الآخر وينتقدها البعض الأخير.

النقطة الجوهرية في مرافعات الدكتور النعيمي هي ضرورة الدفاع عن الدولة الوطنية والتمسك بها فهي حقا خيمتنا الأخيرة في ظل الفوضى وعدم الاستقرار، خاصة في زمن انتشرت فيه قوى الظلام والفوضى الخلاقة والفوضى غير الخلاقة. لكن المجال يتسع هنا للاختلاف مع أطروحات الدكتور النعيمي في ما يتعلق بالدولة الوطنية. ففكرته عن الدولة الوطنية تبدو مفرطة في المثالية.

ولا يعتبر سجل الدولة الوطنية سجلا ورديا، وإخفاقاتها أكثر من نجاحاتها عربيا وعالميا، ولم تتمكن من تحقيق الحد الأدنى من متطلبات الحياة الحرة والكريمة والآمنة، وحتى الحد الأدنى من واقع التسامح والتعايش والاستقرار والازدهار. ولم تتمكن من إنجاز مطالب شعبية ملحة كالمساواة والحرية والعدالة والسعادة.

ولا يوجد أي دليل مقنع أن الدولة الوطنية على أهميتها، هي وحدها القادرة على جمع أفرادها وصهرهم في بوتقة وطنية واحدة وتحقيق الاستقرار والأمن والتنمية والازدهار. حتى في أكثر الدول الوطنية تقدما لم يتحقق الأمن والأمان والاطمئنان والازدهار في المطلق.

وتوضح أدبيات علم السياسة والفكر السياسي أن الدولة الوطنية تحولت في حالات عديدة إلى دولة تسلطية تمارس القمع والاستبداد وربما كان آخر همها رفاهية الإنسان. لذلك وبقدر ما أن الدكتور النعيمي محق في دفاعه عن الدولة الوطنية، إلا أن للدولة الوطنية إخفاقاتها وأكدت الخبرة العملية والميدانية أنها غير قادرة وحدها على تحقيق التسامح والحياة الحرة والكريمة والآمنة.

صراعات عقيمة

ضرورة الدفاع عن الدولة الوطنية والتمسك بها

بقدر الاتفاق مع الدكتور النعيمي في نقده المحق للتراث، الذي صادف كبد الحقيقة في قوله إنه لا علاقة لنا بصراعات هذا التراث وخلافاته القديمة، ولسنا ملزمين بحل هذه الصراعات العقيمة، والجميع متفق معه على أنه لا يجب إضفاء قداسة على التراث ليست فيه أصلا (الصفحة 52). مع ذلك فالتراث بحلوه ومره يعيش فينا وبيننا ولا يود تركنا لحالنا. فمهما حاولنا الابتعاد عن التراث، فإن التراث يرفض الابتعاد عنا، ويعيد إنتاج نفسه، خاصة أن الدولة الوطنية الضعيفة توظف هذا التراث وتستخدمه أسوأ استخدام كمصدر من مصادر الشرعية. لذلك لا يوجد حل سحري للانفصال عن سطوة التراث الذي كما يقول الدكتور النعيمي يمنعنا من النظر إلى المستقبل، وحوّله نفر من المسلمين إلى سجن كبير يحتكر الماضي، ويحاصر الحاضر، ويخنق المستقبل (الصفحة 53)، بل إن بعض الفقهاء ذهب إلى أبعد من ذلك
حينما حول التراث، بكل خزعبلاته وحمولاته وصراعاته إلى دين في ذاته (الصفحة 61).

والأمر كذلك كيف يمكن إذا، إحداث القطيعة مع التراث ومع سلبياته؟ ماذا نحن فاعلون بهذا التراث؟ لا توجد إجابات واضحة في ثنايا كتاب الدولة الوطنية لهذا السؤال، سوى نقد التراث الذي خضع بما فيه الكفاية للنقد الفكري على امتداد العصور. ويشهد القارئ شجاعة الدكتور النعيمي الأدبية في تناوله لحالة الفوضى الدينية التي يعيشها الشباب المسلم في هذا العصر.

النقطة الجوهرية في الكتاب تكمن في ضرورة الدفاع عن الدولة الوطنية والتمسك بها باعتبارها خيمتنا الأخيرة في ظل الفوضى

ويضع الدكتور النعيمي اللوم على بعض علماء وفقهاء الدين، لأنهم ساهموا في إحداث هذه الفوضى، وفي مقدمة هؤلاء الدكتور يوسف القرضاوي. فهو أكثر من غيره مسؤول بالقلم والمنبر عن إحداث خلط ممنهج بين الثابت في الدين والمتغير التاريخي في التراث إلى حد أنه جعل المتغير ثابتا، والثابت متغيرا، مما أدى إلى ضياع الثوابت الدينية التي أدخلت الأمة في حالة ارتباك. (الصفحة 62).

هنا يبرز النقد بأقوى تجلياته في كتاب الدولة الوطنية الذي يتهم هؤلاء العلماء والفقهاء بتشويه الثوابت الدينية، حيث أصبح أي شيء وكل شيء أصلا من أصول الدين.

المطلوب كما يقول الدكتور النعيمي بروز علماء دين جدد يخرجون الأمة من هذا النفق المظلم الذي أدخلنا فيه بعض الفقهاء. لكن من حق البعض أن يعترض على إعطاء علماء الدين فرصة أخرى لتصحيح الفوضى الدينية. فقد أعطيت لهم الفرصة تلو الفرصة لكنها تبعثرت جميعها عبر عقود وقرون. هذا المخرج الذي يقترحه الدكتور النعيمي لم ينجح في السابق، فهل سينجح في اللاحق من الأيام؟ لذلك قد يكون المخرج الحقيقي في فتح الفضاء الديني للنقاش الفكري من خارج المدرسة الدينية وإتاحة الفرصة للاجتهاد والإبداع، وإعمال العقل واستعادة الفلسفة وترسيخ نهج البرهان والمدرسة العقلانية الرشدية، للخروج من النفق المظلم الذي تعيشه الأمة بسبب التداخل الشديد بين الثابت والمتحول وبين الدين والتراث والعقيدة والتاريخ المثقل بالسلبيات والصراعات.

تحدي المستقبل

فكرة الدولة الوطنية لا تتوافق مع مشروعهم

الرهان الحقيقي كما يقول الدكتور النعيمي هو التعامل مع حاضرنا وليس مع ماضينا ليكون الحاضر مصدر إلهام حضاري وقوة دافعة للمستقبل. فاجترار الماضي يجعلنا غافلين عن الحاضر غير قادرين على التعاطي بصورة إيجابية مع أسئلة المستقبل وتحدياته (الصفحة 68).

ما يحسب لكتاب الدولة الوطنية أنه يطالب بجرأة غير مسبوقة بوضع ما لا يناسبنا من التراث في متحف لأنه ليس مكتوبا لنا، نحترمه لكن لا نتبعه، لأن من كتبه بشر لا يعرفون شيئا عن واقعنا وظروفنا (الصفحة 81).

فالتراث الذي يستند على كتب الفقه المتشددة تحوّل إلى سد يعيق تدفق الحاضر إلى المستقبل وإلى حاجز يمنع العقل من التفكير الإبداعي بل يؤدي حتى إلى كراهية الآخر وإرهابه.

ولا يتردد الدكتور النعيمي في خوض معركة فكرية ضارية مع تنظيم الإخوان المسلمين المسؤول عن كل جذور التنظيمات الإرهابية المعاصرة (الصفحة 117).

فهذا التنظيم كما يؤكد هو الرحم الذي خرجت منه جماعات العنف والإرهاب التي تعمل على تفكك الدولة الوطنية. لذلك فإن الإخوان في نظره هم “الخطيئة الكبرى” في التاريخ العربي المعاصر وفي الوعي الجمعي المسلم. ولا يأتي هذا الكلام من فراغ فللدكتور النعيمي تجربة طويلة ومريرة مع هذا التنظيم وله معرفة عميقة بفكره، وطرائق عمله ويتعهد بالكشف عن علاقته بالإخوان في فترة من فترات حياته في كتاب قادم غير هذا الكتاب.

يبقى أن الدكتور النعيمي يراهن كثيرا على التعليم وجودته وإصلاحه خاصة إصلاح التعليم الديني ومدخله إلى ذلك نشر فكر ونهج وسلوك التسامح والنظر إلى المستقبل.

فلن تنهض الأمة ما لم تدرك أن التعليم عمل مستقبلي وليس مجرد وسيلة لإعادة اجترار التراث وتمجيد التاريخ الذي لا مجال لتكراره (الصفحة 158). لا أحد يختلف مع الدعوة إلى إصلاح التعليم، التي تكررت كثيرا في الآونة الأخيرة، لكن اتضح أن إصلاح التعليم سهل قوله وصعب تحقيقه في كل مكان.

أما التسامح الذي يطالب به الدكتور النعيمي فقد أصبح سلعة نادرة حتى في أكثر الدول تسامحا في العالم التي لم تعد متسامحة، بل ارتدت عن مبدأ التسامح واستسلمت لقوى التعصب وتيار اليمين الصاعد بقوة الكاره للآخر والمصاب بلوثة الإسلاموفوبيا. مما يعني أن التعليم وحده لا يملك الحل السحري لمشاكل العصر، ولا يستطيع وحده تحقيق السلام والقضاء على التعصب والعنصرية والعنف ضد الآخر.

لا شك أن كتاب الدولة الوطنية غني بالأطروحات الفكرية النقدية الجريئة ويأتي وقته ليحرك ساكنا فكريا نعاني منه في الإمارات عبر المصارحة والمكاشفة بما في ذلك إحداث صدمة في الوعي الجمعي. وإذا كان هذا هو هدف هذا الكتاب القيم، فقد حقق هدفه الفكري بامتياز.

رابط المقالة https://alarab.co.uk/إخفاقات-الدولة-الوطنية-لا-تبيح-تفكيكها