أول هذا الشهر شباط (فبراير) عُقد الاجتماع الحادي والأربعون لمنتدى التنمية الخليجي، بعد سنتين من التوقف القسري بسبب الجائحة، إذ كان يعقد سنوياً قبل ذلك. هذا المنتدى تطوعي لأبناء الخليج من الجنسين، تناقش فيه قضايا التنمية في دول الخليج من خلال أوراق بحثية رصينة، وقد أصدر بعد لقاءاته السنوية عدداً من الكتب احتوت على الموضوعات التي نوقشت في تلك اللقاءات وهي متاحة على موقعه الإلكتروني. ربما هو التجمع الوحيد والمستمر والتطوعي، وقد نشأ حتى قبل قيام مجلس التعاون، لما تستشعر به تلك المجموعة من أهمية التعاون وحل مشكلات التنمية عن طريق العلم.
هذا العام كان الموضوع الرئيسي “الفساد معطل للتنمية في الخليج”، وهو أي الفساد، ليس معطلاً للتنمية فقط، بل أيضاً هو عامل من عوامل اللامساواة في المجتمع وأساس في زرع عدم الاستقرار.
وقدمت في اللقاء خمس أوراق بحثية (موضوعة على موقع المنتدى لمن يرغب في المتابعة)، تشمل على التوالي: الفساد في دول مجلس التعاون، الفساد الأكاديمي، فاعلية مكافحة الفساد، تحصين المجتمع من الفساد، وأخيراً أدوات مكافحة الفساد. كما يتضح أنها مظلة واسعة أخذت من النقاش الحيوي ما تستحقه وقرأت تجارب محاربة الفساد في هذه الدول قراءة نقدية واعية.
قيمة هذا المنتدى والتجمع أنه بعيد من الأدلجة ويحاول أن يقترب من المشكلات العالقة اقتراباً موضوعياً، ولذلك تتعدد وجهات النظر المطروحة فيه وتشبع القضايا بحثاً.
الفساد بمعناه العام هو استخدام سلطة لتحقيق مصلحة، وهو مصطلح واسع ويحتاج إلى تفسير وتدقيق، كما أن الفساد بمعناه العام وقدرته على تعطيل التنمية قضية أصبحت عالمية تساق فيها الكثير من التقارير ويقدم الوافر من الأرقام، ولا يكاد مجتمع يخلو منها، كما أنها قضية معترف بها في دول الخليج، بدليل أن كل دول الخليج لديها مؤسسة (باختلاف التسميات) عملها متابعة قضايا الفساد تحت مسمى (هيئة مكافحة الفساد)، والاختلاف هو في سوية القوانين المنظمة لتلك المؤسسات، فبعضها شبه شامل وبعضها ينتابه القصور التشريعي.
في المناقشات، ولها أهمية، ذهب البعض إلى لوم النموذج الاقتصادي، وإلى أن الفساد في الخليج سببه الرئيسي هو الاقتصاد الريعي، ولكن ذلك تعميم قد يكون مخلاً، فهناك مجتمعات صناعية ورأسمالية ومجتمعات اشتراكية ليست منزهة عن الفساد. البعض الآخر ذهب إلى تفسير انتشار الفساد على أنه نقص في الوازع الديني، وهذا أيضاً تفسير ناقص لأن عدد من يعتقد الجمهور أنهم “رجال دين” تورطوا في الفساد، وقد كتبت الصحف الخليجية عنهم وبعضهم دين في القضاء. وآخرون ذهبوا إلى أن انتشار الفساد هو نقص في الأخلاق، وربما ذلك تعميم قيمي، فليس بالضرورة ارتباط نظافة اليد بالأخلاق، قد يشتهر البعض بأخلاقه الرفيعة ولكن قد ينغمس في الفساد أيضاً. يذهب البعض الآخر إلى القول إن سبب الفساد أو زيادته هو عدم الاستقرار النفسي أو قلة اليقين بالدولة، لذلك يرى الفاسد الاستفادة اللحظية من الفرص المتاحة، وهو من جديد تفسير ربما كان خارج سياق المنطق السليم.
القطبة المخفية في هذا الملف هي وجود أو عدم وجود إرادة صلبة سياسية لمحاربة الفساد، بوجودها يمكن أن توجد قوانين صارمة وشاملة تعطي لتلك المؤسسات التي صممت لمحاربة الفساد “أسناناً قوية” لاتخاذ الخطوات القانونية لمتابعة المفسدين وكشفهم.
لقد كشفت الدراسات المقدمة في الندوة أن الفساد ظاهرة عالمية ويكلف المجتمعات سنوياً تريلوني دولار (تكلفة الرشوة عالمياً)، وهي تكلفة ضخمة تأكل من رأس مال المجتمعات كما تعطل التنمية.
من التجارب التي عرضت أن الرقمنة في أداء الوظائف العامة يمكن أن تقلل من شيوع الفساد، بمعنى أن تقدم الخدمات عن بعد بمجرد إكمال المتطلبات المستندية، وبالتالي تقليل الاحتكاك البشري المباشر.
لاحظ المجتمعون أن بعض دول الخليج تراقب موضوعات الفساد في القطاع العام فقط، وتقصر عن النظر لتلك المشكلة في القطاع الخاص، أما بعضها فتشمل تشريعاته القطاعين العام والخاص، بالتالي استكمال مظلة الرقابة في كل من العام والخاص هو المطلوب.
أيضاً هناك قصور في الأدوات القانونية التي تخوّل المتضرر أن يلجأ إلى القضاء، بمعنى أن بعض دول الخليج تتيح في تشريعاتها إمكان أن يتقدم المواطن العادي بالشكوى، وبعضها الآخر تقصر الشكوى على من هو متضرر أو صاحب مصلحة! وسد باب الإطلاق مع أن الأرجح أن تتاح أدوات أكثر مرونة للمواطن العادي.
محاربة الفساد في التجارب الدولية طريقها طويل وعسير، فقد تم اغتيال معظم أعضاء لجنة تقصي الفساد في هونغ كونغ في مرحلة من المراحل من قبل المتضررين من جماعات المافيات المنتشرة، إلا أن الدولة تغلبت في النهاية وأصبحت تجربة هونغ كونغ من التجارب الناجحة في القضاء على الفساد.
حرية الإعلام والصحافة لها دور في كشف الفساد، فكثير من قضايا الفساد في دول العالم كُشفت بداية عبر الصحافة، وهنا تبدو المعادلة واضحة: حريات صحافية أكثر تساوي قدرة أوسع على كشف الفساد.
لقد قرع المنتدى الجرس، ليس من مدخل أيديولوجي أو تحزبي، بل من مدخل الاهتمام بتنوير الرأي العام حول آثار تلك الآفة العالمية والمحلية وضرورة مكافحتها، لأنها ببساطة تعطل التنمية وتشوه العلاقات الاجتماعية وتزرع الشقاق في آن واحد، والأكثر أنها تضعف الثقة العامة بالدولة. إنما التحية لهذه المجموعة المتجددة التي أخذت على عاتقها زيارة مشكلات الخليج ومعالجتها علمياً.