بانعقاد ثلاث قمم دفعة واحدة في العاصمة السعودية الرياض (قمة سعودية- صينية، وقمة خليجية- صينية ثم قمة عربية- صينية)، بمشاركة عدد من قادة الدول الخليجية والعربية، تكون العلاقات بين “التنين الصيني” والعالم العربي قد دخلت منعطفاً تاريخياً لافتاً من النواحي السياسية والاقتصادية وحتى الحضارية.
ويبدأ الرئيس الصيني، شي جينبينغ، الأربعاء، زيارة رسمية إلى السعودية لمدة يومين يشارك خلالها في ثلاث قمم رئيسة، تتمخض عنها اتفاقيات عدة وتوصيات يأمل العرب بفضلها تدشين صفحة جديدة مع بكين، وخصوصاً الاستفادة من النموذج التنموي للصين.
مراحل العلاقات
ومرت العلاقات العربية الصينية بعديد من المراحل والمنعرجات التاريخية التي كانت تؤرجح هذه الروابط بين مد وجزر، بين علاقات قوية دافئة وعلاقات أخرى متوترة أو علاقات فاترة في أحسن الأحوال.
ويقسم مؤرخون ومتخصصون في العلاقات بين التنين الصيني والبلاد العربية إلى مراحل رئيسة عدة، أولها مرحلة السنوات التي تلت مؤتمر باندونغ عام 1955، الذي كان النواة الصلبة لتأسيس حركة عدم الانحياز، وأعقبه اعتراف بلدان عربية عدة في جمهورية الصين الشعبية، منها مصر والمغرب والجزائر والعراق وتونس.
وأما المرحلة الثانية، وفق أنس خالد النصار، مؤلف كتاب “الاستراتيجية الصينية تجاه الدول العربية: الأهداف والمآلات”، فتتمثل في الفتور الحاد الذي بلغ حد القطيعة الدبلوماسية والفكرية بين الطرفين خلال أواخر الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، جراء تبعات “الثورة الثقافية” لصاحبها ماو تسي تونغ.
والمرحلة الثالثة في العلاقات بين الصين والعرب انطلقت، وفق المصدر ذاته، مع وصول دينغ شياو بنغ إلى سدة الحكم في عام 1978، الذي أتى بسياسة منفتحة تعتمد على البراغماتية السياسية، بينما المرحلة الرابعة اتسمت أكثر بالتعامل الاقتصادي والتجاري للصين مع الدول العربية دون أن تكون مؤثرة في حل المشكلات الإقليمية، خصوصاً قضايا وملفات الشرق الأوسط.
والمرحلة الخامسة تتماهى مع إطلاق الصين مبادرة الحزام والطريق في 2013، وتتسم بكونها أكثر تعاوناً في الجانب التجاري الاقتصادي، بدليل أن المبادلات التجارية بلغت 330 مليار دولار في حدود عام 2021، بفضل تأسيس منتدى التعاون الصيني- العربي عام 2004.
سياقات القمة
وتأتي القمة الصينية- العربية في سياق عالمي استثنائي بشكل غير مسبوق، يتسم بنوع من الاستقطاب الدولي خصوصاً في غمرة استمرار الحرب الروسية – الأوكرانية، وما أفرزته من اصطفافات سياسية ودبلوماسية وحضارية بين بلدان وقوى العالم.
وبعد عقود من هيمنة القطب الواحد في العالم متمثلاً في الولايات المتحدة الأميركية، بدأ العالم يتلمس الطريق نحو “الانفكاك” من هذه القطبية، ليؤسس عالماً بأقطاب متعددة، ولعل الصين أحد هذه الأقطاب الرئيسة التي تظهر في الأفق.
ولا تتردد الصين في إبراز طموحاتها، بل وتعميم استراتيجياتها التنموية المختلفة، خصوصاً المبنية على الابتكارات التكنولوجية لتحقيق هدف تعتبره بكين مشروعاً، يتجسد في زعامة وقيادة العالم اقتصادياً وتجارياً في أفق عام 2030.
ويرى مراقبون أن ما يجمع الصين تحديداً والدول العربية أكثر مما يفرق بينها، فهدف الصين نحو التحول إلى قطب عالمي وقوة دولية يضرب لها ألف حساب، بالتالي “تفكيك” القطب الأميركي أو على الأقل الحد من هيمنته لن يتأتى إلا بمد اليد نحو العرب.
الصين تجد في الدول العربية مصدراً خصباً من الثروات المعدنية والطاقية التي بواسطتها يمكن أن ترفع من تنافسية اقتصادها ليضاهي الاقتصادي الأميركي الرأسمالي، والعرب (أو أكثرهم) يجدون في الصين نوعاً من الملاذ، كما أن لهم حاجة في العقل الصيني المبتكر القائم على التكنولوجيات الحديثة.
“رابح/ رابح”
يقول في هذا الصدد الدكتور ناصر بوشيبة، الخبير في الشأن الصيني والأستاذ في جامعات صينية، إن تنظيم القمة الصينية العربية يتماشى مع تصريح الرئيس شي جينبينغ بأن الصين ستعزز الفرص لجميع الأطراف المسهمة في بناء “الحزام والطريق” بشكل مشترك، عبر ولوج السوق الصينية وتسريع بناء مناطق تجريبية للتجارة الحرة، ودعم ومساعدة البلدان النامية على تسريع تنميتها.
ويتوقع بوشيبة أن تشارك القمة العربية الصينية في تحقيق التعاون الدولي متعدد الأطراف المربح للجميع، وتقدم مخططاً عملياً وموثوقاً للتعاون العملي بين رواد الأعمال الصينيين والعرب وتعزيز التبادلات بين الشعوب العربية والشعب الصيني.
ويرى الخبير ذاته بأنه يتعين على العرب في هذا السياق الاهتمام أكثر بما تقدمه الصين عبر هذه المبادرات، والتعلم بشكل أفضل من تجربتها الناجحة في تحقيق الاستقلال عن الغرب عبر الاهتمام بإصلاح المنظومة التعليمية، وتوفير الظروف المواتية لتطوير البحث العلمي وتشجيع الابتكار.
وزاد بوشيبة بأن “ما تقدمه الصين من خلال (الحزام والطريق) هو دعوة لاتخاذ إجراءات إيجابية في احترام تام للاختيارات المستقلة للدول العربية لمسار التنمية الخاص بها والتعاون المربح للجانبين على أساس منطق (رابح رابح)، بدلاً من فرض أيديولوجية أو نظام حكم على الدول الأخرى لا يتماشى مع الظروف الوطنية أو يتعارض مع التاريخ والثقافة”.
مجالات التعاون
ويبدو أن الصين تعرض مجالات التعاون مع البلدان النامية ومنها العربية، بشكل أكثر واقعية من أميركا، ووفق استراتيجية محددة أبانت عن ملامحها رسالة الرئيس الصيني إلى الاجتماع الـ14 لقادة بريكس في صيف 2022، إذ اقترحت بكين خلالها إجراءات عملية للتعاون مع الدول العربية في ثمانية مجالات بالخصوص.
وهذه المجالات هي، الحد من الفقر، والأمن الغذائي، ومكافحة الأوبئة وتطوير اللقاحات، وتمويل التنمية، ومواجهة التغيرات المناخية، والتنمية الخضراء، والتصنيع، والاقتصاد الرقمي والاتصال في العصر الرقمي، وتمخض حينها الاجتماع عن قائمة تضم 22 مقترحاً لمشروعات يمكن أن يصبح كل منها نقطة مهمة للدفع بالتعاون الصيني العربي.
ويرى بوشيبة في هذا الصدد أن جميع المجالات المذكورة تعتمد على الابتكار التكنولوجي، كما أنه خلال سياسة الإصلاح والانفتاح حملت الصين روح الاستقلالية والابتكار، وحققت إنجازات كبيرة في بلورة مناهج البحث العلمي وجعلها في خدمة التنمية.
وفي السياق يسجل دينغ لونغ الأستاذ في معهد دراسات الشرق الأوسط، أن البلدان العربية تحتاج من الصين تفوقها في مجال الاتصالات والتسويق الإلكتروني والذكاء الاصطناعي والابتكار التكنولوجي بفضل سياسة بكين التي نهجتها في قطاع التعليم.
ووفق لونغ، فإن العناية بالتعليم في الصين استراتيجية تشجع على روح المبادرة والإبداع والابتكار، مبرزاً أن الإنفاق على تعليم الأبناء يأتي في مقدمة الإنفاقات المعيشية لمعظم الأسر الصينية سواء في الأرياف أو في المدن.
الإعجاب بالصين
ويبدو أن حصان الاقتصاد الصيني يجر معه عربة السياسة والثقافة والحضارة أيضاً، فالصين باتت تعرف لدى الدول العربية بمنتجاتها التجارية الشهيرة (صنع في الصين) أكثر من سياساتها حيال الشرق الأوسط وحيال العرب.
هذه السياسات الصينية يرى الباحث في العلاقات المغربية الآسيوية، حميد ظافر، أنها ترتكز على عامل محدد محوري، هو أنها تنأى في كثير من الأحيان بنفسها عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ما دامت هذه الدول لا تتدخل في شؤون بكين.
ووفق الباحث الجامعي ذاته، فإن الدول العربية في مجملها تميل إلى التعامل مع القوى التي لا تتدخل في شؤونها وقراراتها السيادية.
وتبعاً للمتحدث ذاته، هناك عامل آخر يفسر تقرب عديد من العرب من الصين، كونهم أن هذا البلد لم يكن يوماً قوة استعمارية، كما أن المجتمع الصيني متحفظ يشبه المجتمع العربي وله تقاليده وعاداته وطقوسه الحضارية الضاربة في التاريخ.
هذه المعطيات يقول ظافري إنها ليست معياراً ولا دليلاً على أن أميركا ستفقد مكانتها في المنطقة قريباً لفائدة الصين، لكنها بالمقابل مؤشر على احتدام التنافس بين هاتين القوتين على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
الصورة ليست وردية
الصورة ليست وردية تماماً كما يعتقد كثيرون، فعلى رغم أن الصين تشتهر بالابتكار التكنولوجي، وهو رأسمالها القوي الذي تروج له ليقود شراكاتها مع الدول النامية عموماً والبلدان العربية بوجه خاص، غير أن “هناك إشكالات ونواقص تظهر لدى الجانب الصيني، تجعل من نقل تجربته في التنمية غير قابلة للاستنساخ كما هي”، بحسب الباحث حميد ظافر.
وشدد المتحدث عينه على أن “أبرز مشكلة في هذا السياق هي صعوبة نقل النموذج الصيني في الابتكار التنموي إلى بلد عربي كما هو، لأن البيئة تختلف والعقليات تختلف كما أن الكوادر تختلف، بالتالي الأهم هو إحداث ثورة في التعليم لدى البلدان العربية كما فعلت بكين، قبل نقل المعارف والابتكار التكنولوجي”.
ويلتقط خيط الحديث الخبير بوشيبة ليؤكد أن الشراكات بين الصين والدول العربية قلما تعتمد على نقل التكنولوجيا والمعارف والابتكارات، مبرزاً أن الصين مستعدة لمشاركة هذه الإنجازات المبتكرة مع البلدان العربية، التي قد تشكل طريقة أكثر فاعلية من حيث التكلفة للحصول على التقنيات المبتكرة نفسها من الغرب.
ولفت بوشيبة إلى أن نقل المعرفة القائم على الابتكار التكنولوجي يمكن أن يكون وسيلة فعالة ومفيدة للبلدان العربية لحل بعض المشكلات الأساسية ذات الصلة بمعيشة السكان”، مردفاً أن “الظروف مواتية للحكومات والشركات ومنظمات المجتمع المدني في الدول العربية لاتخاذ إجراءات فعالة لاغتنام هذه الفرصة التاريخية للاستفادة من التجربة الصينية”.
ولعل الخلاصة الأكثر توازناً تلك التي بسطها دينغ لونغ الأستاذ في معهد دراسات الشرق الأوسط، ضمن مقالة له، حيث شدد على أن “التجربة التنموية الصينية على رغم نجاحها لا تقدم حلولاً جاهزة لدول أخرى، ولا يمكن تطبيقها في بلد آخر دون تعديل، وأنه على كل دولة أن تستكشف نمط التنمية الخاص بها مستفيدة من تجارب الأمم والشعوب الأخرى وفقاً للظروف المحلية”.
رابط التقرير على موقع أنديبندنت عربية