مستقبل الأمن والاستقرار السياسي في مختلف دول العالم سيقترن في الفترة القادمة بجانبين مُهمَّين للغاية، أولهما توفير الأمن الإنساني (حتمية توفير الطعام والشراب وفرص العمل بشكل كامل ومنصف) وثانيهما تحقيق الثقة السياسية في النظام السياسي..

موجة متصاعدة من ارتفاع الأسعار لمختلف أنواع السلع والخدمات تضرب جميع دول العالم بلا استثناء، يعتقد الكثير من البشر أنها مصطنعة نتيجة تدخل أيادي الجشع أو الاستغلال، سواء كان ذلك من رجال السياسة أو الشركات والتجار من أصحاب المصالح، أو بسبب سوء إدارة الحكومات والأنظمة السياسية للثروات والإمكانات الوطنية، أو بسبب التوزيع غير المنصف أو المنظم لها.
بغضِّ النظر عن الأسباب المباشرة أو غير المباشرة التي يفترض أنها كانت وراء السبب الذي جعل السلع والخدمات ترتفع إلى هذه المستويات الخطيرة والتي باتت تهدد أمن واستقرار المجتمعات الإنسانية، خصوصا في جانب الأمن الإنساني والاستقرار السياسي، مثل الحروب والتلوث وتأثير المناخ وما إلى ذلك، يمكن القول والتأكيد إن المجتمعات الإنسانية اليوم تقف أمام مفترق طرق تاريخي خطير جدا، كما أن الأنظمة السياسية والحكومات الراهنة ستواجه مع الوقت تحوُّلات خطيرة ومفصلية في جوانب الحفاظ على بعض القِيَم السياسية التي لا شك في أهميتها للاستقرار والأمن مثل الولاء والانتماء.
على العموم ما يهمنا في هذا السياق هو التأثير المتبادل بين الاقتصاد والسياسة أو ارتفاع الأسعار والفوضى السياسية، أو ضعف الولاء والانتماء والوعي السياسي، وعدم قدرة الحكومات على مواجهة أو التصدي لهذه الموجة المتصاعدة لأسعار السلع والخدمات؛ طبعا التاريخ السياسي شاهد على أن أزمات الغذاء وارتفاع الأسعار والغلاء دمرت العديد من الدول، وفجرت الكثير من الحروب، ونشرت الفوضى والاضطرابات الاجتماعية والسياسية.
مؤكد أن مثل هذا النوع من الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تتداخل وصلب الحياة وأسباب البقاء البشري ستكون الأخطر، وهي الأخطر بالفعل عبر التاريخ الإنساني، فلقمة طعام وكوب ماء قد يتسبب ـ إذا لم يتم توفيره بطريقة أو بأخرى ـ في جرائم كثيرة وعديدة؛ لأن الإنسان حينها يدافع عن استمرار حياته وبقائه الإنساني، يقاتل ويقتل من أجل استمرار أفراد أسرته، وفي تلك الأثناء تفقد أهم ركائز الأمن والاستقرار، فلا ولاء إلا للقمة العيش.
واجهت أغلب الدول المعاصرة مثل هذه الأزمات عبر التاريخ بمعالجات تراوحت بين التشجيع (تنمية وعي الاستهلاك) والاتجاه نحو السلع البديلة والأسواق الشعبية كبديل للمنتج المستورد أو السلع الغالية بشكل عام، كما اتجه بعضها للعمل على استثمار الأراضي الوطنية للزراعة، وتشجيع المنتج المحلي مع دعم بعض الخدمات التي تقدمها الحكومة القادرة مثل دعم الماء والكهرباء والسلع الغذائية؛ أضاف البعض الآخر ـ وبالإضافة إلى ما سبق ـ عددا من الضرائب والرسوم الخدمية على بعض الخدمات العامة مثل الغاز والوقود والكهرباء والماء وما إلى ذلك لرفد الموازنات بالأموال التي تحتاجها الدولة لاستمرار تقديم الخدمات الأساسية ورواتب الموظفين وتقديم الخدمات وما إلى ذلك.
طبعا كما هو معروف أن مثل هذه المعالجات ـ وإن كان لبعضها آثار إيجابية ـ تحتاج إلى وقت لتظهر وتتحقق نتائجها على أرض الواقع، ولكن للأسف الوقت دائما في مثل هذه الظروف والأزمات ليس في صالح الأنظمة السياسية والحكومات، فلا يمكن أن يطلب من أي إنسان أن ينتظر للحصول على الغذاء والشراب، ليس من المقبول أن يطلب منه في وقتنا الحاضر الاستغناء عن بعض الخدمات العامة مثل الكهرباء أو الوقود لمركبته، فقد أصبحت هذه الخدمات والسلع جزءا لا يتجزأ من حياته اليومية، وهنا نسأل: كيف له أن يستمر على العديد من الثوابت والقِيَم الأخلاقية والإنسانية وهو عاجز عن الحصول على مثل هذه الخدمات والسلع له ولأفراد أسرته، أو أنه لا يملك المال اللازم لذلك؟
ما يهم في الأمر هو المستهلك (المواطن والمقيم) في أي بلد، هل لديه القدرة على تحمل موجة الغلاء وارتفاع الأسعار التي ضربت أبرز شرايين الحياة والبقاء، أي فاتورة الماء والغذاء خصوصا، وأساسيات الحياة المستقرة في وقتنا الراهن بوجه عام مثل الكهرباء والوقود، والتي بدأت تؤثر على حياة العديد من الأفراد في مختلف المجتمعات؟ والأدق: هل الجميع لديه القدرة على تحمل ذلك؟ هل أثَّرت تلك المعالجات الرسمية على البيئة السياسية والأمنية في أي بلد؟ ما انعكاسات هذه الأزمات على الوعي والولاء السياسي؟ هل يمكن أن تؤدي موجة الغلاء وارتفاع الأسعار الراهنة إلى القضاء على العديد من الأنظمة السياسية القائمة والحكومات الراهنة باتجاه أنظمة جديدة؟
على ضوء ذلك يمكن التأكيد على أن لمثل هذه الأزمات بعض المعالجات المؤقتة والعاجلة وأخرى تحتاج إلى وقت أطول بالطبع. وبلا شك إن مثل هذه الأزمات التي تواجه الإنسانية تحتاج إلى تضافر الجهود الشعبية والرسمية، فليس من المقبول أن يطلب من الحكومات أكثر من قدراتها وإمكاناتها في ظل وجود الشفافية والمصداقية؛ كما أنه لا يمكن للحكومات أن تطلب من أي مواطن أو مقيم أن يُسهم في التخفيف من إشكالية ارتفاع الأسعار والبيئة السياسية الداخلية تظهر التفاوت الاجتماعي والتوزيع غير المنصف للثروات وانتشار الفساد بشكل واضح.
نعم مثل هذه الأزمات لا يمكن أن تمر بسلام على أوطاننا دون تعاون وتلاحم بين الجانب الشعبي والجانب الرسمي، وبكل تأكيد لا بُدَّ من إعادة النظر في العديد من الأفكار والتوجُّهات الرسمية وكذلك الشعبية مثل ثقافة الاستهلاك، والبحث عن كل ما يُسهم في ارتفاع دخل الفرد، وتحقيق العدالة الاجتماعية والتحول إلى الاستثمارات الوطنية، خصوصا في جوانب الأمن الغذائي.
مستقبل الأمن والاستقرار السياسي في مختلف دول العالم سيقترن في الفترة القادمة بجانبين مُهمَّين للغاية، أولهما توفير الأمن الإنساني (حتمية توفير الطعام والشراب وفرص العمل بشكل كامل ومنصف) وثانيهما تحقيق الثقة السياسية في النظام السياسي في مختلف جوانب الإدارة والحكم.

رابط المقالة في الجريدة