سؤال المشاركة الشعبية في المجالس التشريعية (النوعية والمستوى والنتائج) غير محسوم أمره سواء في المجتمعات المتقدمة أم في النامية. غير محسوم من جانبين كبيرين، الأول هو المسؤولية والآخر هو الالتزام. أمامنا في الأسابيع الأخيرة تجربتان، من بين تجارب أخرى في هذا العالم الذي نعيش، الأولى حدثت وتحدث في بريطانيا والأخرى في الكويت، على ما بين التجربتين من فروق ثقافية وتاريخية بل وحتى زمنية.
في الأولى نجد أن السيدة ليز تراس قدمت استقالتها الأسبوع الماضي وهي الرئيسة الثانية لمجلس الوزراء بعد بوريس جونسون الذي خرج بداية الصيف مذموماً من حزبه، ومن ثم جرى سباق لاختيار رئيس الحزب ورئيس الحكومة استمر تقريباً ثلاثة أشهر، طاف فيها المرشحان ليز تراس وريشي سوناك (ذو الخلفية الهندية) على معظم تجمعات حزب المحافظين للدعوة الى برنامجيهما.
اختار أعضاء الحزب في تصويت سري السيدة تراس، وقد قدمت برنامجها بشكل واضح: تخفيض الضرائب وتقليص الإنفاق، وما إن قامت بذلك في موازنة مصغرة حتى انطلقت ردود فعل من السوق تدهور معها الجنيه الإسترليني وتصاعدت نسبة الدين العام وانطلقت شرور كثيرة، وصحا الجميع على أن ذلك البرنامج هو في الحقيقة كارثة أدخلت الحزب في محنة!
ربما كان اختيارها ليس بسبب برنامجها الذي كان واضحاً أنه نكبة، بل من أجل منع شخصية من أصول هندية من أن تكون للمرة الأولى في التاريخ رئيساً لوزراء بريطانيا العظمى. الدافع اذاً ثقافي، وربما عنصري، فتم اختيار “الأقل سوءاً” من وجهة نظر الناخب المحافظ!
رغم سوداوية المشهد، إلا أن الآلية عملت بسرعة فاستقالت الرئيسة وصممت طريقة جديدة لاختيار بديل وبسرعة، وذلك ما يحمد للنظام على تعثره الواضح. الفرق الذي سنراه هو فرق بين القدرة على التغيير والانحباس في المكان!
على الجانب الآخر، جرت منذ أكثر من أسبوعين في الكويت انتخابات مبكرة على خلفية أزمات سياسية معطلة للعمل العام، وطلب ولي العهد الكويتي الشيخ مشعل الأحمد في خطاب تاريخي في 22 حزيران (يونيو) الماضي “أن أحسنوا الاختيار”. بعد ظهور نتائج الانتخاب، اعتقد الرابحون بشكل عام أن الناس أحسنوا الاختيار واعتقد الخاسرون أن الناس أساؤوا الاختيار، وذلك أمر طبيعي.
كما أن النخب والمتابعين انقسموا بين من قال إنه حسن اختيار ومن قال أنه سوء اختيار. الرأي الأكثر قرباً الى الواقع أنه الاثنان معاً، فبعض من وصل إلى سدة المجلس كان خياراً جيداً والبعض الآخر عكس ذلك. إلا أن السؤال الأهم من يؤثر أكثر في الآخر؟ واضح أن هناك رأياً يقول إن تأثير السلبي في الإيجابي هو الذي في الغالب سيسود، سننتظر في هذا الملف لنرى!
إلا أن القضية في المشهد الكويتي تتعدى الحسن والسوء، هي أعمق من ذلك، هي العوار المعترف به من كثيرين في كل من قانون الانتخاب وتوزيع الدوائر، وهو الملف الأول الذي سيجري العمل عليه بعد فترة تقليب الحسن والسوء، فإن قام المجلس بمراجعة هذين الملفين وما يتبعهما من لوائح من بينها لائحة المجلس الداخلية، ونجح في إصلاح العوار، فإن التفاؤل السائد لدى البعض سيكون في محله، أما إذا سوّف وأخّر هذين الملفين وربما تجاهلهما فإن كفة السوء ستغلب على الجمهور العام.
بسرعة غيّر المجلس شعاره واتخذ خطوات قد لا يرى الجمهور العام أن لها تلك الأولوية، إلا أنها قد تدل إلى عزم على التغيير، على أن لا يكون التغيير مشوباً بشبهة الانفعال على التروي والشكلي على الجوهري.
واضح أن عضوية لجان المجلس أيضاً افتقد كثير منها الخبرة المستحقة، ويمكن بالطبع تعويض ذلك بمستشارين أكفياء إن صلح التوجه، إلا أن لجنة منهم مفقودة وهي لجنة الرقابة البرلمانية، فقد كثر اللغط في السابق على التربح من الكرسي لذا أصبحت تلك اللجنة ضرورة قصوى في الحالة الكويتية ولكنها لم تنشأ!
ومن العجيب أن سارع المجلس تعويضاً عن تلك اللجنة المستحقة الى تكوين لجنة القيم ومعالجة الظواهر السلبية! وهي لجنة ليس لها مثيل في أي برلمان في العالم ولها صوت عالٍ في حال حفلات الموسيقى والفن والترفيه! أي لجنة محاربة الفرح، من دون أن يتفضل أحد من الأعضاء بالسؤال ما هي القيم التي تدافع عنها تلك اللجنة، ومن يحدد السلبي من الإيجابي منها! إنها لجنة وصاية تذكرنا برواية جورج أورويل “1984” و”الأخ الأكبر”! هي في صلبها نفي الديموقراطية بمعناها الشامل، فمن انتخبوا يصبحون أوصياء على من انتخبوهم! في الوقت الذي تواجه الكويت قضايا لها أولوية قصوى في عالم متغير ومضطرب وأمام تضخم متوحش وصراع على الموارد.
لو كانت تلك اللجنة تدافع عن حرمة المال العام وحسن الأداء المهني لأجهزة الدولة وانتقاء العاملين بحسب الكفاءة وليس الزبائنية والشفافية في الأداء للأعضاء في أعمالهم والعمل على تنويع مصادر الدخل وترقية التعليم والعناية بالثقافة، قد يكون ذلك إضافة. أما مراقبة سلوك الناس وتعطيل فرحهم، فليس لهما علاقة بحرية الفرد والمجتمع والتي هي أساس لا بديل له في العمل النيابي، فسلوك سلبي في نظر شخص قد يكون إيجابياً في نظر شخص آخر، إن كان داخل إطار القانون العام، لأن الحكم عليه خاضع للثقافة التي لونت شخصية ذلك الفرد أو الجماعة، كمثل دعوة سيدة زميلة الى اجتماع عام يراه بعضهم محرجاً وبعضهم الآخر يراه نقصاً في الفهم وتخلفاً ليس له مكان في القرن الحادي والعشرين! فأيهم “ظاهرة سلبية”؟
لا يزال الوقت مبكراً للحكم النهائي على المجلس الحالي، ولكن الانتظار لن يطول، إذ سيحمل كمجموعة المسؤولية في، إما تقدم ورقي المجتمع وتطوير التعليم والخدمات والسعي للدفع بتنويع الدخل، أو ضياع الوقت مرة أخرى في الهامشي وتكرار الأخطاء السابقة! وهذا يعني تخلياً عن المسؤولية وانحرافاً عن الالتزام وتحقيق أهداف الأغلبية.