حورية عبيدة | المشهد
حين اتفقتُ معه على إجراء حوار صحفي بدا متشكّكًا من قدرتي على نشره بالصحافة المصرية؛ فلما لمَح أمارات التعجب على وجهي؛ بادرني بقوله أن أراءه “صادمة للمشهد العربي عامة والمصري خاصة”، موقنًا أن صعود دول الخليج الذي بلغ أوجه اليوم يلقى قبولًا عالميًا؛ بينما يلقى نوعًا مِن الغيرة والحساسية في المحيط العربي، وهنا ذكَر ليكيف تعامل معه “عمرو موسى” بشكل جاف حين رفض الأخير التقليل مِن دور مصر في الحفاظ على أمن المنطقة رغم الظروف السياسية التي تعانيها في السنوات الأخيرة؛ ورفضه قبول فكرة أن الخليج يتحمّل وحده العبء الأمني، كما أن – لضيفي – أراءه الخاصة في الحقبة الناصرية.
بعباراتٍ واضحةٍ وقويةٍ وبثقة آكِدة يقول: أينما يُولَّى المواطن العربي وجهه اليوم؛ سيجد شاهدًا مِن شواهد “لحظة الخليج” في التاريخ العربي الحديث، فنفوذ دولِه وتأثيرها تتزايد في المشهد الثقافي والسياسي والاجتماعي والثقافي والإعلامي، والثقل الاقتصادي العربي انتقل إلى الجزء الخليجي، وأصبح القرار السياسي العربي يُصنع في العواصم الخليجية؛ بعد أن كان حكرًا على القاهرة وبغداد ودمشق،وتحولَتْ مدن خليجية إلى مراكز ماليةٍ؛ ودبلوماسيةٍ؛ وإعلاميةٍ عالميةٍ، وأخذ قادة الخليج الجدد يتصرفون بثقة، ويتحدثون برغبةٍ واضحةٍ في قيادة الأمة العربية نحو مستقبل مختلف، ومن المؤكد أن هناك حالة خليجية جديدة تتشكل على أرض الواقع تفرض نفسها، وتُحتم النظر إلى الخليج كعملاقٍ اقتصاديٍّ وسياسيٍّ وإعلاميٍّ يملك قراره، ويتحمل مسؤولياته ومسؤوليات أمْن واستقرار المنطقة العربية بمشرقها ومغربها.
“المشهد” تلتقي بالدكتور “عبد الخالق عبد الله” أستاذ العلوم السياسية؛ والمحلل الإماراتي المثيرة قناعاته للجدل؛ سيّما ما يكتبه على “التويتر” الذي يراه أفضل وأسوأ ما يمارسه في هذه الفتره من عمره! له العديد مِن الكتب والدراسات المنشورة في الدوريات المُحكّمة، حاصل على العديد مِن الجوائز التقديرية، وتم اختياره شخصية العام الثقافية، ونال جائزة أفضل كِتاب عن الإمارات، وجائزة “تريم عمران” لرواد الفكر، وهو عضو فاعل في العديد من الجمعيات الثقافية والأكاديمية، ومستشار لعددٍ مِن اللجان؛ والمنتديات؛ والدوريات؛ والمجلات؛ وهيئات التحكيم الخليجية والعربية.
بهدوءٍ واطمئنانٍ وثيق؛ يرى ضيفنا أن آراءه بُنيتْ على دراساتٍ وأبحاثٍ عمِل عليها طيلة عشر سنوات خلَتْ، وأن مصطلح “لحظة الخليج” وُلِدَ على يديه في العام 2009، وقد نحتَ ذلك المصطلح مذ أينعتْ فكرته وأثمرت عددًا من المقالات والمحاضرات الفكرية باللغتين العربية والإنجليزية؛ وسْط ترحيبٍ وتقبُلٍ ونقدٍ من ناحية، واعتراضٍ وتهكمٍ تشكيكٍ مِن ناحية أخرى، لكن ثقته ازدادتْ حين تم التحكيم العلمي؛ ونال الاهتمام الأكاديمي مِن مركز الشرق الأوسط بجامعة لندن للدراسات الاقتصادية والسياسية، الذي نشر عام 2010 دراسة موسّعة بعنوان: “لحظة الخليج والقضايا المعاصرة”، وحظيتْ أوراقه بنقاشاتٍ جادةٍ مُرحِبة مع د. “توبي داج” رئيس المركز.
* بدايةً.. لفتُّ نظر مُحدثي إلى رفضي تقسيم العالم العربي إلى “دولٍ خليجية” وأخرى “عربية”؛ لكنّا نقبل تلك القسمة “الضيزى” لأن موضوع الحوار اليوم يضطرنا لذلك، قلتُ له: تُردّد دومًا أن الأدوار تبودلتْ بين الدول العربية ودول الخليج العربي؛ فما الذي تعنيه؟
-بات جليًّا الآن تأثير الجزء الخليجي على الكل العربي بأكثر من تأثير الكل العربي على الجزء الخليجي، وتبادل الأدوار هذا فرَض نفسه؛ وحدَث من غير أن يكون مقصودًا حدوثه، بل كان نتيجة لنمو خليجي ضخم ؛ مقابل تراجع عربيٍّ كبيرٍ على مدى نصف قرن، انظري إلى الشواهد والإحصاءات والأرقام؛ الخليج ينافِس عالميًا ويُهيمن عربيًا، فمثلًا يأتي مطار دبي الدولي الأول عالميًا كأكبر مطار يستقبل المسافرين، ويشكّل الناتج المحلي الإماراتي والسعودي 42% من إجمالي المحلي العربي، ولا توجد دولةٌ عربيةٌ غير الإمارات ضمن قائمة أهم 30 قوة ناعمة في العالَم، كما يأتي ترتيب الدول الخليجية كأول دولٍ عربيةٍ مِن حيث التعليم بين البالغين، وتوجد 5 دول خليجية ضمن أعلى 10 دول عربية في مؤشر المساواة وتمكين المرأة، وتحتل دبي المرتبة السابعة عالميًا مِن حيث أكثر المدن تأثيرًا، بل وفي الصدارة العربية، ويُعد معرض “الشارقة” للكتاب الأول عربيًا والرابع عالميًا، وتمثل نسبة الجوائز الثقافية والأدبية الخليجية 68% من إجمالي الجوائز العربية، وضمن أفضل 20 جامعة عربية توجد 10 جامعات خليجية وتحديدًا بالإمارات والسعودية، والسعودية الأولى عربيًّا مِن حيث براءات الاختراع المُسجلة، تليها الإمارات، وتأتي خمس دول خليجية في بداية الترتيب العربي لمؤشر تقنية المعلومات.
وعلى المستوى الإعلامي؛ لدينا أهم جريديتين؛ وأفضل مجلة علمية؛ وأشهر مجلة نسائية؛ وأكبر ثلاث فضائيات إخبارية؛ وأهم قناة وثائقية؛ وأحسن القنوات الرياضية، وأكبر قناة ترفيه ودراما تأثيرًا في الذوق العربي، وأكبر قناة غنائية صانعة للنجوم، وفي دبي أكبر تجمع إعلامي عربي سنوي، وأهم جائزة صحفية عربية، وبالإمارات أهم جائزة أدبية للرواية “البوكر”، وفي الشِّعر “شاعر المليون” و”أمير الشعراء”، وأهم وأكبر مدينة إعلامية حرة.
أما الصناديق السيادية الخليجية فهي قوة مالية عالمية يُعتد بها، وقد تمكّنتْ دول خليجية مِن منافسة أكبر العواصم والمدن العالمية في استضافة فعاليات رياضية دولية، واستقطاب مهرجانات تجارية وثقافية ودولية كـ “إكسبو 2020” واستضافة المقر الدائم لمنظمة دولية كمنظمة الطاقة المتجددة (أيرينا) في أبوظبي.
* ألا نعزو ذلك الفضل للثروة النفطية والقدرة على التمويل؛ بحيث لو توافرت الموارد المادية الضخمة لأية دولة أخرى لنالتْ نفس الحظ من التقدم الذي تتحدثون عنه؟
– قبل 50 عامًا كانت دول الخليج “شوية خيام” على “شوية بيوت” بصحراءٍ قاحلةٍ جدباء، و”شوية بدو” رُحّل يعيشون الكفاف، ولا يدركون وجود أضخم حقول النفط على وجه البسيطة تحت أرجلهم، كل ذلك صار ماضيًا، وبعد أن كنا “ظاهرة نفطية” أصبحنا مستثمرين بشكلٍ ضخمٍ في التعليم؛ والصحة؛ ورفاهية الإنسان؛ والبنية التحتية، وأصبحتْ دول الخليج قاب قوسين أو أدنى مِن تجاوز حالة الدولة الريعية النفطية التي تتراجع باستمرار.
المال وحده يا سيدتي لا يكفي؛ حيث تُعدّ نيويورك ولندن وباريس وموسكو وطوكيو وكوالامبور وروما وسيؤول وسان بولو وجوهانسبرج وغيرها مِن أهم مراكز المال، المسألة تعود لامتلاك الدبلوماسية الخليجية النشطة، والبنية التحتية الجاهزة، والبيئة السياسية المستقرة، والمدن الجاذبة، والإمكانات والقدرات المُقنعة، والقيادات الشابة الطموحة.
حتى في الموقف التفاوضي؛ لم تعد تابعة، بل تتمتع بندية واضحة في النظام العالمي، وأكبر شاهدٍ هو جولات الحوار التي تمَّتْ للتوصل إلى اتفاقية “التجارة الحرة” مع تكتلاتٍ تجاريةٍ كبرى كالاتحاد الأوروبي، كذلك انضمام السعودية إلى “منظمة التجارة العالمية” 2005، دليل أن الخليج باتَ مركز ثقل عالمي صاعد وليس عربيًّا فحسب.
ومراعاةً للحساسية العربية؛ فإن رصد بروز الخليج لا ينم عن أي شعورٍ بالاستعلاء، فالخليج لا يوَد أن يخترع لنفسه ريادةً لا تناسبه، وليس في وارد المواطن الخليجي أن يتقمّص هوية غير هويته العربية، ولا يمكن له أن يعيش دون عمقه العربي الراسخ في القلوب،لكن الحقيقة أنه لم يبق جزء عربي مستقر ومزدهر نسبيًا إلا الجزء الخليجي، فكان لابد له مِن استلام القيادة لحماية ما يمكن حمايته، وإعادة الحد الأدنى مِن الأمن؛ والاستقرار؛ والازدهار؛ والاعتدال؛ إلى “كيانٍ” عربيٍّ منهكٍ؛ ومفككٍ؛ ومحبطٍ؛ وفاقد الأمل، ومع ذلك فمازالت الحالة الخليجية الجديدة قَيد التشكيل، وفيها مِن نقاط الضعف كما فيها مِن نقاط القوة، وتواجه تحدياتٍ مِن الداخل ومخاطر مِن الخارج، لكنها أكثر ثقةٍ بنفْسها وبمواردها وبمساراتها المستقبلية مِن أي وقتٍ آخر.
وألْفِتُ الانتباه إلى أن الخليج لا يبغي استبدال نظرة الاستصغار والتحقير الذي عانى منها طويلاً- خاصةً في الحقبة الناصرية؛ والتي مازالنا نسمعها تتردّد مِن كوننا حُفاة؛ رعاة؛ رجعيين – إلى نظرة استعلاءٍ زائف، لقد كان يُنظر إلينا على أنّا كياناتٌ هشة؛ ومشتتة؛ في طور التكوين، وكان الجزء الخليجي لا يَعني شيئًا لأحد، ومع ذلك فالحديث عن “لحظة الخليج” وتوهجه تعني ما نال هذا الجزء الخليجي مِن استقرارٍ وازدهارٍ واعتدالٍ جعل الكل العربي المنهك والمتراجِع والمتفكِك يُحمِّل الجزء الخليجي مسؤوليات تاريخية لمواجهة غلاة الأمة، وجماعات الإرهاب، وقوَى التطرف والتشدد، ووقْف تمدد غزاة الأمة، والتصدي للقوى الإقليمية التوسعية وفي مقدمتها إيران، هي لحظة المسؤولية تجاه العمل العربي المشترك وتجاه قضية العرب الأولى – فلسطين – وواجبات الدعم والمساعدة المالية والإنسانية للدول العربية المحتاجة، ووقف مسارات التفكك والتفكيك للدولة الوطنية العربية.
* هل يعني أن دول الخليج قادرة تمامًا الآن على قيادة العالم العربي؟
– هذا لا يعني أنها باتت دولاًمكتملةً سياسيًّا وعسكريًّا وثقافيًّا وإعلاميًّا؛ حتى “مصر” في أوج اللحظة الناصرية لم تكن قادرة على إدارة الوطن العربي وقيادته وحدها، فقيادة منطقة عربية متنوعة صعبة؛ وتتطلب شروطًا ليست متوفرة في دولة واحدة، خاصة ونحن نعلم عِلم اليقين أن منطقتنا مأزومة؛ وغير مستقرة؛ ومخترَقة مِن قوى عالَمية وإقليمية جامحة تسعى لإضعافها وإخضاعها وتفكيكها.
لكن لا يجب أن ننسى أن الجزء الخليجي رغم مركزه الديني؛ وثِقله النفطي والمالي؛ واستقراره السياسي؛ وميزة تجمعه الإقليمي كان مترددًا في ممارسة أي تأثير أو حضور، وربما كان غائبًا قصدًا، ومغيبًا خلال معظم سنوات القرن العشرين، ثم بدأ دوره يبرُز ويتعاظم تدريجيًّا بتقديم مساعداتٍ ماليّةٍ سخيّةٍ كواجبٍ قوميٍّ دون أنْ تكون هناك رغبة ملحة في القيام بأدوارٍ إقليميةٍ قيادية، وموقنًا أنّ المعونات المالية لا تؤهِل لقيادة منطقةٍ عربيةٍ مشحونة بالخلافات السياسية والعقائدية خلال معظم القرن الفائت.
أما في القرن الحالي فقد أصبحتْ دول الخليج واضحة التأثير، واتخذ قاداتها موقعهم في قلب القرار العربي، ولم تعد تمارس دورها بالوكالة (كانت النظرة دومًا أنّا يدُ أمريكا في المنطقة)، وباتتْ تلعبُ دورها بالأصالة عن نفْسها؛ كقوةٍ ناعمةٍ وجماعيةٍ توظف مواردها المالية وإمكاناتها العسكرية للخوض في الملفات الساخنة على امتداد العالَم العربي.
سابقًا كان الثقل متموضعًا في مصر وسوريا والعراق؛ نظرًا للمزايا السكانية؛ والجغرافية؛ والتاريخية؛ والمعرفية؛ والقيادية التي تؤهلها لتقوم بدورالقوى الناعمة والصلبة معًا، ولكن مع الألفية الثالثة وقع تحول نوعي في مصائر الدول، فتلاشى بريق تلك الدول ومعها بعض دول المغرب العربي (التي فضّلتْ أن تعيش خارج هموم الأمّة؛ والانكماش حول نفسها كي لا تتوقف مسيرتها) وسطع الخليج تتويجًا لنصف قرن مِن التراكم التنموي، وأربعة عقودٍ مِن التعاون الخليجي الاقتصادي المزدهر، والاستقرار السياسي والشرعية التاريخية لنظم وراثية تمكنتْ مِن التكيف مع المستجدات واستيعاب التحولات، ومواجهة أخطار خارجية بمرونة، وتوظيف خَلاق للموارد، وانفتاح قياداتها الشابة على العالم، والاستفادة القصوى من فرصة العولمة المعرفية والتقنية والاستثمارية.
* رغم أن أكثر من 60% من اقتصاديات دول الخليج تعتمد على مبيعات النفط؛ إلا أنك لا تشعر بالخوف أو القلق في حال انتهاء الاعتماد عليه؛ فهل سيواصل الخليج ازدهاره في حال انخفاض سعر النفط مثلا أو نضوبه؟
– قطعًا لا أخاف؛ لدينا بدائل ماليةٍ ناجحةٍ؛ فقد برز الخليج اقتصاديًّا وِفق المعايير العالمية التنافسية: فامتلك أكبر المحافظ السيادية في العالم، ويدير شركات طيران تنافس أكبر وأَقدم خطوط طيران بالعالَم، ومجتمعاته صارتْ جاذبة للمواهب والكفاءات والعقول العربية التي تفضل الهجرة إليه بدلاً مِن أوروبا واستراليا وكندا وأمريكا، واستقطبَ أغنى أغنياء العالَم؛ وأكبر عدد سياح بالمنطقة، في وقتٍ تبدو المنطقة العربية كئيبةً تعاني مِن فقْدِ البوصلة؛ والإخفاق؛ والركود؛ والهزائم المتكررة، في السابق كان كل ما هو مصري وعراقي ولبناني وتونسي ومغربي وجزائري جاذبًا ومصدر إلهامٍ واحترامٍ؛ ساعة كانت القاهرة مدينة الأحلام وقِبلة الشباب، و”عبد الناصر” الذي أكثر الزعماء احترامًا وقبولًا وتأثيرًا، تحول الخليج الآن ليصبح صورة تتوهج بالنجاح والانفتاح، فنظريات العلاقات الدولية تقول بوجود علاقة بين الاستقرار الداخلي وممارسة النفوذ الخارجي.
المؤشرات تقول أن أصغر دولة خليجية كقطر مثلا تأثيرها حاليًا في مصر أعمق مِن تأثير مصر فيها؛ رغم ما تمتلكه مصر مِن قدراتٍ؛ وإمكاناتٍ؛ وأدواتٍ قيادية؛ وحضارةٍ؛ وموارد؛ وطاقة بشريةٍ مُعطلة،لأن بروز الخليج لم يتواكب فقط مع انهيار الكل العربي بل مع بزوغ “العولمة” في الألفية الثالثة؛ ألفية المعرفة والثورة العلمية والتكنولوجية ونهاية عصر الأيديولوجيا، وزاد البعض فقال بل ومع ِصدام الحضارات؛ فقد انهار الاتحاد السوفيتي، وسقطتْ المنظومة الاشتراكية وحائط برلين، وانتهى نظام القطبية العالمية، وظهرتْ أسيا كقوى عالمية جديدة، واندلعتْ الثورة العلمية والتكنولوجية، وانتشر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وانتهتْ الحدود الجغرافية والسياسية، وظهر وعيٌ إنسانيٌ جديدٌ بأنّ العالَم ينكمش؛ فاندمجتْ اقتصادات، وتداخلتْ مجتمعات؛ وتقاربتْ دول؛ وانفتحتْ ثقافات، وبرز ذوقٌ ووعيٌ ومزاجٌ عالميّ بأنّ البشرية تنتمي لكوكبٍ واحدٍ، وتمكّنتْ دول الخليج مِن الاستفادة القصوى مِن كل تلك المعطيات، وبأفضل صورةٍ ممكنةٍ، متفاديةً أسوأ ما تحملها العولمة مِن مظاهر عدم المساواة في توزيع الثروات أو ازدراء العادات والتقاليد، أو تهميش كل ما هو محليّ، في ذات الوقت نرى دولاً عربيةً بعينها تقف في الصفوف الأمامية المعادية للعولمة؛ لتظل معاناتها من الفرص الاقتصادية الضائعة!
إذا نظرنا للنماذج التنموية الناجحة عالميًا سنجدها صغيرة جغرافيًّا وسكانياًّ في أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية؛ وقد أخذتْ بمبادئ التجارة الحرة، والانفتاح الاقتصادي، والقبول بشروط منظمة التجارة العالمية، والترحيب باستثمارات الشركات العابرة للقارات، وطبّقتْ بحماسٍ سياسة الخصخصة ومبادئ الليبرالية الجديدة، في مقدمة ذلك النمور الأسيوية: سنغافورة؛ وهونج جونج؛ وتايوان؛ وكوريا الجنوبية؛ وماليزيا؛ وأندونيسيا؛ وفيتنام، هذه النمور الأسيوية انفتحتْ على العولمة دون تحفظٍ.. ومِن هنا أقول أنه قريبًا سنكون أول نمرٍ اقتصاديٍّ عربيّ.
* في الآونة الأخيرة نلمس إجراءات تسهيلية في أمر العِمالة والسياحة الأسيوية؛ فما مدلول ذلك؟
– بكل وضوحٍ؛ فكما تعي دول الخليج محيطها العربي؛ فإنها تُقدّر محيطها الأسيوي كذلك، فنحن امتدادٌ لثقله الاقتصادي؛ لذا قرر الخليج الاتجاه شرقًا لتعميق العلاقات النفطية؛ والتجارية؛ والاستثمارية مع كل تلك النماذج الناجحة، في الطاقة النووية؛ والطب؛ والتعليم؛ والدفاع؛ وصناعة الفضاء وغيرها.. ويكفي أن 70% مِن نفط الخليج يتجه لأسيا، و60% مِن الأيدي العاملة لدينا أسيوية، و36% مِن استثماراتنا السيادية انتقلتْ للقارة الصفراء، و70% مِن جميع السلع تأتينا مِن الصين إلى موانئ دبي أولاً ثم يُعاد تصديرها لأوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط، وفي ذات الوقت فالدول الأسيوية تنظر لدول الخليج على أنها بوابة الوصول للشرق الأوسط والعمق الأفريقي.
رابط المقالة elmashhad.online/Post/details/118424