محمد الرميحى | جريدة الشرق الاوسط

في التراث يروى أن أسداً كانت لديه طريدة وحضر الذئب والثعلب القسمة، فسأل الأسد «كيف يمكن تقسيم الطريدة؟»، قال الذئب «يأكل سيد الغابة ثلاثة أرباعها ويترك لنا الربع الأخير»، فصفع الأسد الذئب بقوة أطارت رأسه متدحرجاً، وعاد وسأل الثعلب «ما رأيك؟» قال الثعلب «أنت سيد الغابة ورأسها، تأكل ما تشتهي من الطريدة وإن بقي شيء منها نتركه لك لليوم التالي كي تفطر به»، سأل الأسد الثعلب «مَنْ علمك كل تلك الحكمة؟»، قال «رأس الذئب الطائر!». كلما قرأت عن حركة النهضة التونسية وانعطافاتها السياسية (أو حركة الإسلام السياسي التونسي) أتذكر تلك القصة، وقد احتفل مناصروها في الأسبوع الماضي بذكرى قيامها الثامنة والثلاثين، لكن بين القيام والاحتفال مساحة شاسعة من التحولات، السبب في انعطافة الحركة في الفضاء السياسي التونسي من حركة «انقلابية» وإقصائية وتهميشية مستندة إلى استنساخ تجارب زمن تاريخي مختلف نبعت من خلال تنظيرات مبسطة لحسن البنا وسيد قطب، إلى حركة مهادنة ومشاركة، السبب في ذلك هو ما جرى في عام 2013 في مصر، فبعد إعلان «النهضة» – متسرعة – الاستعداد لاستقبال كل اللاجئين من مصر من مناصري الحركة الإخوانية المصرية والتنظيم الدولي، على أساس أن ما حدث هو تغيير مؤقت، إلا أنها سرعان ما انكفأت عن ذلك، وتحولت في مجمل طروحاتها؛ حتى لا يتكرر المشهد المصري في تونس، هذا التحول قاد بعد ثلاثة أعوام إلى إعلان فصل الدعوة عن الحركة السياسية، في المؤتمر العام العاشر الذي عقد عام 2016، كان ذلك تحسباً في نهاية الأمر من تكرار «رأس الذئب الذي طار في بلد الكنانة»، وبعيداً عن إقامة الخلافة الراشدة السادسة في تونس التي بشر بها قادة الحركة عشية الإطاحة بزين العابدين بن علي عام 2011 إلى المشاركة في كل الحكومات الائتلافية التي قامت في تونس متنقلة بين النقيض والنقيض في الفضاء السياسي التونسي. تلونت «النهضة» بعدد من الألوان الفكرية، وآخر شعاراتها أنها تنتقل من الإسلام السياسي إلى الإسلام الديمقراطي! الذي أخذ قادة «النهضة» التونسية التبشير به في المرحلة الأخيرة قبل أشهر من موعد الانتخابات العامة. المعضلة الفكرية لم تحل ولن تحل رغم كل المناورات السياسية لـ«النهضة»؛ فأداة «النهضة» مثل أدوات الإسلام السياسي مصفوفة الكلم لديهم، جاهزة لإيهام الناس بالمنّ والسلوى، والكلمات أدوات إنسانية وليست ربانية. «النهضة» إن قررت السير في فضاء الأحزاب الحديثة؛ فإنها تنتقل من «احتكار الحق» إلى «نسبية» الحق، وهي بذلك تتناقض مع ثوابتها، وتفقد في وقت ما فاعليتها التحشيدية إن أوغلت في الدعوة للدولة المدنية، وإن بقيت مع احتكار الحق فقدت قدرتها على التواؤم مع الدولة المدنية التعددية بالضرورة، تلك ليست معضلة «النهضة»، لكن معضلة الإسلام السياسي بكل ألوان الطيف الذي تشكل منه. يخطئ من يظن أن الكتابة عن «النهضة» ومسيرتها المتعرجة هي شأن تونسي داخلي، هي في الواقع شأن عربي بامتياز؛ لأنها مثال لمحاولة التحول والتأقلم المتردد. ومع سقوط نظام عمر البشير الذي اتكأ كثيراً على «الإسلام السياسي»، وقد ثبت أنه مفلس في إدارة شؤون الدولة الحديثة، وقبل ذلك سقوط الإسلام السياسي في مصر، إلى خفوت أصوات «الإسلام الصحوي» وإلى توهان أفعال الإسلام السياسي في إيران، الذي يواجه معضلات عميقة ويحول العقيدة إلى استبداد، إلى ارتباك شكل آخر من الإسلام السياسي في تركيا الذي يعتقل معارضيه ويلغي انتخابات صحيحة لم تناسبه، نحن أمام ظاهرة تراجع عامة هي تعثر «استخدام الإسلام في السياسة» التي خلفت كوارث، وعطّلت التنمية، وضللت جيلاً كاملاً، واستنزفت طاقات وقدرات مجتمعاتنا لنصف قرن من الزمان تقريباً، وأفرزت ما أفرزت من عنت وتشدد وإرهاب. لا يجب التسرع باعتبار أن الظاهرة قد أفلت؛ لأن أفولها يحتاج إلى بناء نقيضها، وهي الدولة المدنية العادلة، وتنقية الثقافة العامة من طروحات الجهل والتفاسير العمياء لأحداث التاريخ الإسلامي. حركة النهضة التونسية تريد بعد أن غيرت جلدها أن تتواءم مع التيار العام سواء في تونس أو غيرها من البلدان، وأن تخلق تجربة تسوّق لها في المنطقة، لها قشرة الحزب السياسي ومخبر الإسلام السياسي، وهي عملية تكاد تكون مستحيلة، ولا يمكن أن تنسجم مع الحداثة والدولة المدنية. في سنوات سابقة قرأت للسيد الغنوشي (لا أعرف لماذا يجب تسميته شيخاً)! كتاباً عن الحكم الإسلامي، واعتقدت أن به أفكاراً تعينني كقارئ على فهم المشروع، بعد قليل من الصفحات وجدت أن مشكلة الكتاب هي مع بن علي وليس تقديم لفكر مختلف في منظومة الحكم فهجرته بسرعة، مثلما نهجر اليوم كتابات البنا الذي أعلن أن الديمقراطية معلمة وليست ملزمة! أو كتابات سيد قطب الذي جزم في «معالم في الطريق» بأن المجتمع الذي يعايشه هو «مجتمع غير مسلم»! كثير من مفكري حركة الإسلام السياسي والصحوي عندما تقرأ لهم لا تجد السطحية فقط في عرض الأفكار، لكن تجد حتى الغثاثة في التناول المنهجي، حيث تسقط على أحداث الحاضر قصصاً حدثت في الماضي، والقياس هنا فاسد عقلاً، وفي جزء من التناول كُره لأنظمة قائمة أو أشخاص بأعينهم، وتعميم مخل، وانتقاء لبعض الأفكار التراثية القريبة إلى التزمت. التحولات الفكرية لدى «النهضة» في مجملها «ثعلبية» إن صح التعبير، أي تتوافق مع مجريات الأمور في الظاهر وتحاول التسويق لها، لكن يبقى مشروعها في الاستيلاء على السلطة كامناً رغم كل الخيبات للتجارب المحيطة، هي حتى في تصفية المعارضين تتماثل، ولعلنا نذكر تصفية شكري بلعيد ومحمد الإبراهيمي من نشطاء الجبهة الشعبية التونسية، وقد تمت التصفيات تحت حكم الترويكا 2012/ 2013 وكانت النهضة شريكاً كاملاً فيه، ويشاع أنه تم بذراعها السرية، وتتهم على الأقل بالمسؤولية السياسية والأخلاقية عن تلك التصفيات. لا مجال لحركات الإسلام السياسي التحول الصحيح والصحي نحو الدعوة والعمل على بناء مجتمع حديث وعادل بأدوات العصر التي تناقض بعض ثوابتهم، وما يحدث أمام أعيننا اليوم من صراع في كل من السودان والجزائر وليبيا، على سبيل المثال لا الحصر، هو رسم خطوط الصراع للوصول إلى الدولة الحديثة بعد عناء نصف قرن من تحريف وحبس مقولات هذا الدين العظيم وحشرها في مسارات ضيقة.
آخر الكلام:
لا تتوانى جماعات الإسلام السياسي إن تمكنت من السلطة عن تحويل العقيدة إلى أداة قهر وسرعان ما تخوض حروباً سياسية وتتحول بعد ذلك من حرب كلمات إلى حرب دماء تستنزف الأوطان!

رابط المقالة https://aawsat.com/home/article/1767606/%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%85%D9%8A%D8%AD%D9%8A/%D8%B1%D8%A3%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D8%A6%D8%A8