كثيرًا ما يختلط علينا- وخاصة في وطننا العربي- مفهوم الدولة ومفهوم النظام أو الحكومة، ويعود الخلط في تقديري الشخصي إلى غياب ثقافة الدولة لدينا من نُخب وعامة أولًا، واختزال الحكومة أو النظام (أيا كان) لمفهوم الدولة ومكوناتها في ذات الحكومة، وبالتالي يبدو وكأن الإقليم والشعب وهما المكونان الرئيسان للدولة وكأنهما مُلك عضوض للحكومة لا شركاء لها في مكون الدولة.

أضيف إلى ذلك عهدنا الفتي كعرب بالدولة القُطرية وثقافتها وسُبل إدارتها، كونها ثقافة غربية في الأساس أقحمت علينا بعد عهود الاستعمار وتدمير بُنى الإمبراطوريات والممالك التاريخية والتي قامت عليها وعرفتها الأقطار العربية تاريخيًا وشكلت أقاليم لها.

هذه الأقاليم في عهد الدولة القُطرية المُستحدثة وجدت نفسها في حكم الكيانات البديلة للإمبراطوريات والممالك التاريخية الكبرى، ومن هنا فقدت توازنها في محاكاة وتطبيق هذا التكليف والكُلفة التاريخية الحديثة، فاختل بها الميزان في تقدير هامش مساهمتها في الكيان العربي الأكبر وحدود وماهية وهامش حركتها بداخله من خلال قُطريتها المستحدثة، فنشأت لدينا بالنتيجة ظاهرة الحكومة الدولة وغُيبت المكونات الأخرى سهوًا وعمدًا من أرض وشعب.

فكانت النتيجة الحتمية تعامل أقطارنا العربية مع بعضها عبر منبر الحكومات والنُظم السياسية ليس كممثل للدولة وكما هو طبيعي ومنطقي؛ بل كبديل عنها وناسخ لها، من هنا وقعت سياساتنا ودبلوماسياتنا في المحظور على الدوام وهو معاقبة الدولة على أخطاء النظام والحكومة، بينما المنطق يقول بأن الدولة ثابتة والنظام متحول على الدوام حتى وإن كان وراثيًا ومُلكًا عضوضا.

في واقعنا العربي المُعاصر أمثلة كثيرة وعديدة على هذا السقوط السياسي، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، عقاب جمهورية مصر العربية عام 1979 على أخطاء نظام الرئيس أنور السادات بعقد اتفاقية كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني. فمقاطعة الأقطار العربية للدولة المصرية بناء على أخطاء نظامها قدَّم مصر على طبق من ذهب للصهيونية العالمية وتغلغلت أضرار كامب ديفيد أكثر في جسد الدولة المصرية، فبعد أن أفقدها النظام المصري جزءا مهمًا من مناعتها وحيويتها السياسية أتى الموقف العربي ليزيدها وهنًا على وهن للأسف الشديد.

رحل السادات ونظامه وبقيت كامب ديفيد وآثارها على مصر الدولة والشعب، وحين عاد العرب لمصر تدريجيًا كانت العودة متأخرة وثقافة كامب ديفيد قد أوغل كثيرًا في كيان ومفاصل الدولة المصرية بوجهها الرسمي بالطبع بينما بقيت كامب ديفيد وثقافتها محاصرة ومرفوضة على الصعيد الشعبي وهذا خيار الدولة المصرية الحقيقي والطبيعي.

هنا كان يفترض بالنُظم العربية الاتعاظ من نكبتهم بمصر بجريرة نظام السادات ولكنهم أعادوا السقطة مرات ومرات مع العراق وليبيا وسورية في جهل واضح بالفرق ما بين سياسات النظام وسياسات الدولة أو كيفية التعامل مع الثابت والمتحول.

أعجبني كثيرًا سعي الدكتور ناجي صبري الحديثي وزير خارجية العراق الأسبق لتطبيق هذه القاعدة مع دول جوار العراق، حين تولى مسؤولياته كوزير لخارجية بلاده حين كان الجوار الحيوي للعراق ملتهبًا بالعداء للعراق نتيجة سياسات النظام العراقي حينها؛ حيث سعى الدكتور ناجي إلى تسويق قاعدة التفريق بين سياسات الدولة العراقية وسياسات النظام الحاكم للعراق في مساعيه مع نظرائه بدول الجوار وحقق نجاحًا لافتًا في ذلك.

وفي زمن “الربيع العبري”، أجدُ السياسة السورية حذرة جدًا في تعاطيها مع الدول التي اصطفت نُظمها السياسية لمعاداة دمشق والإضرار بها بتمرير أجندة الربيع الصهيو-أمريكية وخاصة دول الجوار الحيوي لسورية وعلى رأسها تركيا، فقد حرص النظام السوري- في خطابه السياسي والإعلامي- على عدم المساس أو الإساءة للشعب والدولة التركية في خصومته وحصرها مع النظام التركي والمتمثل تحديدًا في حزب العدالة والتنمية ورئيسه رجب طيب أردوغان.

قبل اللقاء.. الصبر العظيم يولد النصر العظيم.

وبالشكر تدوم النعم.

رابط المقالة على موقع صحيفة الرؤية العمانية