د. عبدالحميد الأنصاري | الجريدة – الكويت
ما بعث الرسول- صلى الله عليه وسلم- شتاماً ولا سباباً ولا لعاناً، بل بعث ليتمم مكارم الأخلاق، لذلك وصفه الله عز وجل بأعظم وصف، يحظى به مخلوق من خالقه “وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ”، أدبه ربه، فأصبح السمو الخلقي جبلّة فيه، حتى قالت عائشة، رضي الله عنها، كان خلقه القرآن، كان هو البشاشة واللطف والود “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ” وحين عبس في وجه من لا يراه، جاء القرآن موجهاً.
كتابنا الكريم يزخر بعشرات الآيات المهذبة للمسلكيات، والرقي في التعاملات كقوله: “وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا”، “وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ”، “فاصفح الصفح الجميل”، “وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ”.
بل يحرضنا على العفو والتسامح، ويعدنا بالغفران “وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبـُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ”،
كيف يسع مسلم ينصت لقوله تعالى “وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا” بل كيف يطيق، وهو يتلو “وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ” أن يكون شتاماً، يرمي المخالفين له في رأي سياسي أو معتقد ديني بما يجرحهم، ويسيء إليهم، يتتبع عثراتهم، ويحصي عليهم أخطاءهم؟! كيف ضاقت نفوسنا، فأصبحنا لا نتسامح مع رأي مخالف؟!
السؤال المعضل، الذي هو بمليون: لماذا لم تغرس هذه الشجرة الأخلاقية السامية (القرآنية المحمدية) جذورها القوية في تربة المجتمعات العربية؟! لماذا لم تؤت ثمارها المرجوة، باستثناء فترات ازدهار الحضارة الإسلامية؟! حضارة المسلمين، حضارة مدن، قامت على القيم المدنية، والجهود الطوعية للناس في إنشاء المرافق العامة وتقديم الخدمات المجتمعية من تربية وتعليم وتثقيف وشؤون صحية واجتماعية ودينية ومالية (الأوقاف والمساجد والمدارس والزوايا والتكايا والمستشفيات والنقابات والحرف وجهود العلماء)، وثقها الدكتور حسين مؤنس في كتابه البانورامي الفذ (عالم الإسلام)، والإسلام دين العلم والمدنية، طبقاً للشيخ محمد عبده، فلماذا لم تزهر شجرة القيم الأخلاقية الإسلامية وتثمر، عبر ألف عام وإلى يومنا؟ لماذا تغلبت ثقافة ساكن البادية (في جانبها الغرائزي العدواني) على ثقافة ساكن الحضر؟ وما العوامل التي غلّبت قيم الصحراء على القيم المدنية؟
هل هو نظام الملك العضوض الذي ساد قروناً متطاولة؟ أو انحسار الفكر العقلاني النقدي الذي رفع لواءها (المعتزلة) الذين غيبوا عن المشهد المجتمعي الفاعل؟ أو بسبب حجب المرأة وحرمانها من المشاركة المجتمعية؟ أو لأن المجتمع العربي نكص وارتد إلى رواسبه الثقافية القديمة العصبوية الجاهلية؟ أو لسيادة النمط التربوي القمعي؟ أو بسبب انتشار مرويات حديثية صورت رسولنا الذي بعث رحمة للعالمين عنيفا، ونسبت له حديثاً يقول “بُعِثتُ… بالسَّيفِ…. وجُعِلَ رِزْقي تحت ظِلِّ رُمْحي” أم هو التوظيف السياسي للدين الذي عوق تغلغل هذه القيم في مفاصل المجتمع، وزرع في نفوس الشباب الكراهية، وزين لهم تفجير الذات، تحت شعارات الجهاد والاستشهاد، في سبيل قضايا خاسرة، استعادة الخلافة، والثأر لكرامة الأمة؟!
المحصلة: نحن لم نفلح في ترجمة الأخلاقيات الإسلامية السامية إلى سلوكيات عملية، ثقافة وممارسة ونظاماً، غرساً في مرحلة التنشئة الأولى، ترسخها المنظومة الإعلامية والدينية والتعليمية والسياسية، إذ لا يولد الإنسان خلوقا متسامحاً، بل عبر ممارسات مستمرة في مناخ يسمح بالتعددية السياسية والفكرية والدينية، وتشريعات لا تمايز بين المواطنين بسبب أعراقهم، أو أصولهم أو مذاهبهم وأديانهم، ونظام سياسي يعزز الثقافة المدنية وتجمعاتها.
رابط المقالة aljarida.com/articles/1580660107708817200/