تعد مؤسسات النشر الثقافية إحدى الأداوت الهامة في تمرير الأيديولوجية الفكرية للجماعات الأصولية، وحرصت كل كيانات الإسلام الحركي والسياسي على بناء دور الطباعة والنشر والتوزيع.
لم تضع جماعات الإسلام السياسي عملية التكسب شرطاً ضمن خطة إدارتها مشاريع دور النشر الثقافية، بغية الترويج لبضاعتها الفكرية، والالتحام بالجماهير العريضة، والتأثير في قطاعات الشباب التي تعد الفئة الأكثر استهدافاً.
الإحصاءات الصادرة حديثاً عن دور النشر المصرية (نموذجاً)، خلال السنوات الخمس الأخيرة، بينت ارتفاع نسبة إقبال شريحة الشباب والمراهقين (15- 22 عاماً) على شراء الكتب والروايات الأدبية من دون غيرها من الفئات العمرية الأخرى.
تمثل حالياً مؤسسات النشر الثقافية الباب الخلفي لإعادة تمرير المشاريع الأصولية على مستوى المنطقة العربية والشرق الأوسط، وفقاً لاستراتيجية “الممرات الموازية”، متواكبة مع صناعة “الإعلام البديل”، والهيمنة الجزئية على الرسالة الإعلامية عبر الفضاء الأزرق، وتوجيه “النيو ميديا”.
تقوم مؤسسات النشر الثقافية بدور بالغ الأهمية في تشكيل “العقول البيضاء”، والتأثير في وعي المراهقين والأجيال الحديثة والتلاعب بمخيلتهم، بإعادة تعليب المنهج الفكري المتشدد، وتحويل مضمامين “معالم في الطريق”، و”أبجديات العمل الإسلامي”، و”الفريضة الغائبة”، “ورسائل البنا”،”وماذا يعني انتمائي للإسلام” وغيرها، إلى أعمال روائية وأدبية بسيطة وسهلة الفهم والتناول.
تتشكل المنظومة الثقافية الجديدة المعنية بالترويج للخطوط الفكرية الأصولية، من مئات دور الطباعة والنشر والتوزيع، التي تمت صناعتها تحت أعين التنظيم الدولي لجماعة “الإخوان المسلمين”، وتديرها مجموعة من الكتاب والأدباء، من دون الإعلان عن انتمائهم الفكري والتنظيمي، تحت لافتة حرية الحركة الثقافية.
رغم أن المنظومة الثقافية الجديدة، لا تضع شرط التكسب المادي في المقام الأول، فإنها تمثل مسارات لتدوير الأموال عبر مؤسسات عابرة للحدود والقارات، في ظل صناعة كيانات “ترانزيت” للتوزيع والنشر في عدد من دول المنطقة العربية والشرق الأوسط، من دون الإفصاح عن هويتها أو توجهاتها.
وفي إطار تحجيم الدور “الإخواني” وتمدده الفكري وسيطرته على أكثر من 60 في المئة من قوة النشر الثقافي في القاهرة،(تصريح لرئيس اتحاد الناشرين المصريين في 14 أيار/مايو 2022)، أغلقت الحكومة المصرية عدداً ليس بالقليل من كيانات النشر الموالية للتنظيم عقب ثورة 30 حزيران (يونيو) 2013.
عمل حسن البنا منذ السنوات الأولى من عمر جماعته، على تأسيس شركة للطباعة، وشركة للصحافة، برأس مال قدره 70 ألف جنيه مصري، وكان محمد حلمي المنياوي، المعني بتطوير مطبوعات جماعة “الإخوان” في تلك المرحلة، وفقاً لما ذكره أحمد عادل كمال في كتابه “نقاط فوق الحروف”، فضلاً عن أن الهيكل التنظيمي، تضمن قسماً خاصاً بمتابعة عمل مؤسسات الطباعة والنشر التي تمتلكها الجماعة على مدار تاريخها.
رغم حالة التراجع في سيطرة جماعة “الإخوان” على سوق الطباعة والنشر والتوزيع في القاهرة، إلا أن المعارض الرئيسية على مدار السنوات الأخيرة، حوت المصنفات الفكرية للتنظيم “الإخواني”، نتيجة قيام بعض دور النشر السلفية (المنتشرة بقوة)، بطباعة هذه الكتيبات بمقابل مادي، فضلاً عن وضع بعضها خفيةً داخل مكتبات المساجد والمدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية.
التأصيلات الشرعية التي انتجتها اللجنة الدينية داخل جماعة “الإخوان” عقب فض “اعتصام رابعة المسلح”، حول جواز استهداف ضباط الجيش والشرطة والأقباط المصريين، وتحويل الأزمة من مجرد خلاف سياسي إلى معركة دينية، طُبعت ووُزعت من طريق دور نشر موجودة في القاهرة، بل وشاركت في أجنحة البيع المخصصة في المعارض الفكرية والثقافية الرسمية في الدولة المصرية بين عامي 2014 و2015.
لم يقتصر اللوبي “الإخواني” على اختراق سوق الطباعة والنشر، بل اتجه إلى تأسيس “مراكز الترجمة الثقافية” التي عملت على الترويج لغالبية المصنفات الفكرية لرموز المكون “الإخواني” باللغات الأجنبية، ونقلها في المحافل الثقافية الدولية، الى جانب النشاط المكثف للمؤسسات التابعة للتنظيم الدولي في الغرب، لا سيما الملحقة بالمراكز الإسلامية.
في حوار جانبي مع رئيس اتحاد الناشرين المصريين، سعيد عبده، بيًّن أنه خلال السنوات الأخيرة، تم تدشين ما لا يقل عن 300 دار نشر جديدة في العمق المصري، يشك في تبعيتها لجماعة “الإخوان المسلمين”، وما زالت الأجهزة الأمنية المصرية، تضع بعضها على قائمة المراقبة.
أدركت جماعة “الإخوان”، أهمية دور النشر ومدى تأثيرها في صناعة حواضنها الفكرية والتنظيمية، ومن ثم غلفت كياناتها الجديدة بضوابط من السرية المطلقة، مثلما فعلت من قبل في اختراق مؤسسات الدولة المصرية والتغلغل في أروقتها، وتوعدت بمعاقبة مَن يحاول اسقاط النقاب عنها، أو هتك سترها وغموضها.
لا نبالغ في القول إننا نمتلك قائمة طويلة من أسماء دور النشر الثقافية، الممولة من التنظيم الدولي لجماعة “الإخوان المسلمين”، والقائمين عليها والمشرفين على تدوير محتواها الفكري، نحتفظ بها موقتاً تجنباً لأية أشكاليات قانونية، مع إطلاقها ضمن كتاب جديد قريباً، يرسم ملامح عملية الإختراق “الإخواني” والأصولي للحياة الثقافية في مصر والمنطقة العربية.
محاولات التصدي للهيمنة “الإخوانية” على مؤسسات النشر الثقافية، تطرق لها بشيء من التفاصيل الباحث في الشأن الثقافي والقيادي السابق بجماعة “الإخوان”، سامح فايز، والذي يتعرض حالياً لحالة من التنكيل، تخطت التهديد بالقتل (على حد قوله)، من عناصر محسوبة على جماعة “الإخوان”.
التمدد الفكري لجماعات الإسلام الحركي، يعتبر أكثر تعقيداً في ظل بقاء منظومة النشر الثقافي التابعة لهذه المكونات الأصولية وقوتها، وما يتبعها من داوئر مجتمعية متأثرة بمنجهها، مهما حاولت المواجهة الأمنية تحجيم تموضعها في عمق الدولة المصرية أو المنطقة العربية، لحيويتها في تحقيق الاستمالة الفكرية، ومن ثم عوائدها وفوائدها في التجنيد التنظيمي.