في ظل العتمة التي تحيط بنا من كل جانب في هذه المنطقة، من فشل الدولة في مكان، الى حرب أهلية في مكان آخر تستنزف كل الطاقات وتخرب الأوطان، تستطيع أن تتوقف أمام شيء مضيء وهو مجموعة من الأحداث في منطقة الخليج قريبة الى صنع المبادرات، وهي مبادرات تجلب الفرحة للبعض، وتشيع الامتعاض والبحث عن النقائص، بل والتبجح لدى البعض الآخر، إلا أن المُشاهد يرى أن هناك قرارات تتخذ ما كانت لتتخذها إلا قيادات تعرف أن يكون الإنسان إنساناً.
 
نبدأ من قطر، فبعد أسابيع سيعقد في هذه الدولة أضخم تجمع رياضي دولي عجزت عن استضافته دول ومدن كثيرة، وأعد له الاستعداد المختلف عن كل السوابق لهذا الحدث، إلا أن النجاح يجلب معه الكثير من المنقصات، فبدأت قوى ومؤسسات إعلامية وجماعات تضرب على نغمة اضطهاد العمال الأجانب في قطر! وليس من العقل أو المنطق أن دولة تعرض نفسها لاستقبال أكبر حدث كروي مع ما يصاحب ذلك من إنفاق مالي ضخم واستقبال عدد كبير من المشجعين بكل أطيافهم، أن تعجز أو لا تقوم بواجبها تجاه العمال في أرضها. إن كان هناك تقصير في هذا الملف يمكن أن يعزى الى مقاولين تقاعسوا عن أداء واجبهم، ولكن بالتأكيد ليس الدولة.
 
ولما خفتت نار ذلك الملف تحول البعض الى إثارة ملفات أخرى تركز على من يُسمح له بدخول قطر ومن لا يسمح له، على خلفيته الجندرية، ومن سيسكن مع من؟ وملفات أخرى كثيرة وكأن العالم اكتشف فجأة أنه لا يجوز لبلد صغير تنظيم تلك التظاهرة الرياضية الكبرى، وكلها ملفات ظاهرها الرحمة للبسطاء وأهل الموقف المسبق، قائمة  على معلومات مضللة ومتعمدة الإساءة، وهي ليست أكثر من فقاعة إعلامية، ولم تقم قطر بهذا المجهود لإرضاء تلك النفوس، فالمجتمع القطري مرحب بالحضور من أي مكان وبأي صورة وسيلقى كل من يأتي الى الدوحة كل احترام وتقدير، طبعاً ليس مطلوباً من أحد أكثر مما هو مطلوب من أي شخص يزور مجتمعاً متحضراً، وهو الالتزام بالقانون.
 
 كرة القدم وجمهورها عادة ما يشيعان الكثير من الفوضى والاضطراب، وهناك تاريخ طويل في العواصم المختلفة، ومنها أوروبية، شهد العالم في ملاعبها ذلك الاضطراب، بل ووفاة عدد من أفراد الجمهور نتيجة سوء التنظيم، كل ذلك تحوطت له الدولة القطرية، ووضعت البرامج والموازنات لإنجاح دورة كروية متميزة، لا عزاء للمنتقدين إلا أنهم يريدون مأتماً يبكون فيه، ويسوؤهم أن تنظم دولة من دول الخليج هذه التظاهرة الرياضية الكبرى.
 
نأتي الى الحدث الثاني الكبير الذي وقع الأسبوع الماضي وهو حضور الحبر الأعظم الى المنامة والاستقبال الحافل له والكلمات التي تحدث بها الداعية الى السلام والخير، والأهم صلاة عشرات الآلاف من المؤمنين مع البابا وهم قلّة من المواطنين وكثرة من القاطنين القادمين للعمل من بقاع العالم. من جديد دولة خليجية يصل اليها البابا فرنسيس كما فعلت دولة الإمارات عام 2019 وأنتجت تلك الزيارة الأخيرة وثيقة وقعها شيخ الأزهر والبابا للإخاء الإنساني. تلك الزيارة صلى فيها البابا في مئة ألف كاثوليكي، والأخيرة الى البحرين صلى فيها ثلاثون ألف كاثوليكي، وهي تعني أن آلافاً منهم قد شاهدوا البابا واستمعوا إليه، ولم يكن هناك أي احتمال في حياتهم أن يحضروا مثل هذا اللقاء، يعني إسعاد الناس، وبخاصة المؤمنين البسطاء، وكلها ترسل رسالة تسامح وألفة وتعايش بين الأديان والمذاهب في وقت تشتد دعوات التعصب في المنطقة ككل، ويتمترس السياسيون الانتهازيون وراء نعرات الكراهية للآخر ونبذه في الوطن الواحد، ما يشق الصف ويثير الفتنة ويتيح للقوى الطامحة القفز من تلك الثغرات الى الإخلال بأمن الوطن.
 
أما مشروع التحديث السعودي الاجتماعي والاقتصادي فقد بانت أبعاده الحضارية واعترف الأبعد قبل الأقرب بأهميته ونتائجه المبهرة والإيجابية التي تظهر في سنوات قليلة، وهو مشروع واعد من محاربة الفساد بشكل منظم، الى تطوير التعليم، الى تمكين المرأة السعودية، الى بناء ترسانة اقتصادية ومالية، الى إنشاء مشاريع عملاقة، وحتى الى الصناعة الحربية، هذا المشروع الذي سينقل المملكة العربية السعودية الى آفاق جديدة ويلحقها بتنمية مستدامة على قواعد علمية رصينة ستصل ثماره الى دول الجوار.
 
مشروعا الطاقة النظيفة بين الإمارات والولايات المتحدة لاستثمار مئة مليون دولار من بين مشاريع ضخمة تنم عن أن الدولة عازمة، ليس فقط على السير في التنمية المستدامة وتمكين المواطنين من الرفاه من طريق الإنتاج، ولكن أيضاً خدمة الإنسانية، فالجوع للطاقة من جهة، وتسارع التلوث من جهة أخرى، هما السمة التي تهدد الحضارة الإنسانية، وبوجود طاقة نظيفة تنقذ الإنسانية من الدمار المتوقع في البيئة.

ويتطور مشروع إصلاحي في الكويت في الإدارة والمشاركة والعمل الجاد كي تعود الكويت الى مسارها الطبيعي بعد تعويق أصابها جراء الغزو العراقي وما تلاه من ارتباك، فهناك جهود لإنعاش المسرح والموسيقى وإعادة تعويم المشروع الثقافي، الى جانب الإصلاحات الإدارية والاقتصادية.

عُمان تتخذ من الإجراءات في الانفتاح ما هو لافت، وتبني اقتصاداً حديثاً وتدرب عمالة وطنية شابة تعمل في كل مجالات الاقتصاد، الى جانب إتمام مشاريع البنية التحتية من موانئ وطرق ومطارات تربطها بجيرانها والعالم. المشهد يقول لمن يريد أن هناك إضاءات في وسط العتمة المحيطة.

لا يعني كل ما تقدم أن ليس هناك مشاكل أو عقبات أو حتى منقصات في هذه المجتمعات، ولكنه يعني أن هناك وعياً بالتعامل مع المستجدات بجدية والتفاعل مع تلك العقبات إيجابياً من طريق الاعتراف بأن العالم يتحول وأن العتمة التي أصابت دولاً في المنطقة هي نتيجة التقاعس عن اتخاذ القرارات خارج الصندوق، لذلك فإن النموذج الذي يظهر في الخليج جلياً لكل منصف، أن هناك مشروعاً تنموياً وإنسانياً يمكن رؤيته رؤية العين، وفي الوقت نفسه هذا المشروع التنموي يحتاج الى تحصين، هو يحصن نفسه بنجاحاته، ولكن أيضاً يحتاج الى تحصين في أطرافه بالاهتمام بالأمن الجماعي، لأن النجاح يخلق بشكل تلقائي تحدياته ويفتح شهوات الآخرين في تعطيله.

مرض السياسة العربية التردد والخوف من المجهول والمزايدة، وواضح أن ما يحدث في الخليج من بعض ما أشير اليه سابقاً هو أن هناك مشروعاً يُطلق ذلك المرض الثلاثي، ويستبدل بعلّاته إيجابيات الإقدام والثقة مقرونة بالتواضع في قراءة الواقع.
 
 
رابط المقالة على موقع صحيفة النهار العربي