محمد الرميحي | الشرق الاوسط

مر الخبر على كثير من وسائل الإعلام دون أن تتوقف طويلا عند مغزاه، هو مجرد خبر بالنسبة لها في أجواء العنف والصراع، فجهاد مقدسي الذي كان متحدثا باسم سفارة سوريا في لندن ثم أفرزه نظام بشار الأسد كمتحدث رسمي للنظام بعد قليل من انطلاق رغبة السوريين الجامحة في التحرر من أسوأ استعمار وهو الاستعمار الداخلي، أنيطت به – وهو المقبل من أقلية مسيحية – مهمة تبرير ما يحدث من قتل للإعلام الخارجي من خلال طلاقته التي كانت قادرة على تجميل القبح. مقدسي طفح به الكيل، فاختفى عن الأنظار منذ أشهر، ليس مهما أين هو الآن، المهم أنه قدم اعتذاره في رسالة مقتضبة لأهالي الضحايا السوريين أخيرا، وربما رغبة منه لتطهير ضميره مما علق به، وربما اكتشف أن حبل القمع قصير، أيا كانت الأسباب إلا أنه عمل شجاع، أقصد الاعتذار، وكذلك الترفع عن التكسب من الموقف، أمر يحسب لمقدسي. يقف الكثيرون ضد نظام الأسد لأسباب كثيرة، وبعضها متضارب، وأعتقد أن بعضنا يقف ضد ذلك النظام لأنه لم يستطع أن يقدم لشعبه غير الكلمات المعسولة وكاتم الصوت بأشكاله المختلفة وفواجع العنف. لقد أفلس مشروع البعث منذ فترة طويلة، عندما تحول من فكرة استنهاضية على الورق إلى ممارسة قمعية على الأرض، انتهى منذ زمن طويل في العراق، ثم انتهى كذلك وفي نفس الوقت في سوريا، وأصبح البعثيون السابقون أكثر عددا ممن بقي في ركب السلطة، سواء كانت عراقية أو سورية. هزيمة البعث فكريا وعمليا جاءت على يد من وصل إلى السلطة، وما انتهى إلى بشار الأسد إلا إلى حكم عضوض، أرهب الناس على فترات مختلفة، حتى من قدم حسن الظن فيه. فشل هذا المشروع في أكثر من مكان، فلا هو مقاوم بالمعنى الذي أشاع أنه كذلك، ولا هو تنموي بالمعنى الذي رغبت به نخب سوريا، ولا وطني بالمعنى الهادف للاهتمام بالناس وبحاجاتهم، كل ما يعرفه هو القمع، ثم وصل إلى نفس النتيجة التي وصل إليها جناحه الآخر، استفراد بالسلطة، وأمن مزيف حتى تصور أنه شخصيا آمن كحمام الحرم. هناك شبه نظرية ثابتة بأن الأنظمة تخلق معارضة شبيهة بها، ولا أكثر صدقا على ذلك القول من المثال السوري. لقد خلق مقاومة توسلت العنف ضد العنف، ومهما عظم الهدف فإنه لا يبرر كل هؤلاء الضحايا الذين سقطوا حتى الساعة من الشعب السوري، ضحايا القتل وضحايا الاعتقال وضحايا التشريد. ويحتار العاقل في تمسك القلة الحاكمة في دمشق بالسلطة، تحت مسميات مختلفة، وثمن هذه السلطة، التي لم تقدم أي إنجاز، كل هذا القتل الذي وصل عددا – كما تقول مصادر الأمم المتحدة – إلى ما يقارب السبعين ألف قتيل، وبضعة ملايين من النازحين في الداخل أو الجوار أو حول العالم. أي سلطة يمكن أن تكون مبررة لمثل هذا الفعل؟ عرف التاريخ سلطات وأنظمة تحكمت في شعوبها بالتخويف والقتل والسجن والتصفيات، ولكنها في نفس الوقت كانت تملك مشروعا تنمويا بشكل ما؛ حدث هذا مع هتلر ألمانيا وموسوليني إيطاليا، وستالين الاتحاد السوفياتي، وفي المشرق مع عبد الناصر الذي كان يملك مشروعا من شواهده خطط التصنيع والسد العالي. الحكم في سوريا احتفظ بالقمع ولم يقدم مشروعا، حتى الحريات اختنقت إلى حد العدم. ينتهي مشروع الأسد بكم هائل من القتلى وبالارتكاز على شريحة صغيرة ومتناقصة من المؤيدين، كثير منهم تلطخت يداه بالدم فربط مصيره بمصير سيده، وبعضهم يترك الساحة كما فعل مقدسي، وآخرون يتمنون ذلك لولا تسلط الأجهزة على عائلاتهم، لا أحد سويا يقبل أن يستمر هذا النهر من الدم. قوى العالم من جهة أخرى، ظهر أنها تعلمت من تجارب قليلة سابقة فيما سمي بربيع العرب، فما تمخض عنه ذلك الربيع في كل من تونس ومصر، لا يسر عاقلا، فالسباق نحو الاستحواذ على السلطة أمسى حميميا، وكانت كل الوسائل مبررة من قبل السلطات الجديدة، من التهميش والتشويه وعزل الآخر المواطن إلى استخدام أجهزة القتل للمعارضين صدا لهم وتخويفا لغيرهم، حتى في دول ما قبل الربيع مثل العراق، تستخدم نفس الوسائل، تكرارا من أجل تكريس سلطة أحادية. لقد نزحت فئة كبيرة من المستنيرين من مصر إلى الخارج، ونزحت أيضا فئة أخرى من نفس العينة من تونس إلى الخارج، وهكذا سوف يتم في عدد من دول الربيع، أمام هذه النتيجة يبحث العقلاء عن نهاية أفضل لسوريا. هنا يأتي الحذر في المشروع المستقبلي لسوريا، لا أحد عاقلا يريد أن يرى في سوريا أيضا حكما ظلاميا آخر يستبيح كل المحرمات في سبيل البقاء، ومنها قتل المعارضين في وضح النهار في الشوارع. ولكن يفتقد الحكم السوري القائم ما بقي من ادعاء الوطنية، فهو بجانب كونه يستخدم الأرض المحروقة تجاه كل من يشتبه أن به نقص ولاء، ويهدم المدن ويحرق القرى، يأبى أن يسلم ما بقي من سوريا إلى رأس جسر قد ينقذها من حكم سلطوي آخر، إنه شعار «أنا وليذهب الآخرون إلى الجحيم»، وهو شعار ليس بغريب على تربية سياسية افتقدت الحس الوطني لتعلي الحس المصلحي البحت، وتبدو مغيبة بسبب سكر السلطة. لو كان نظام الأسد ومن حوله يحملون ذرة عطف على الوطن لاستجابوا لمبادرة أحمد معاذ الخطيب التي قدمت في الأيام القليلة الماضية، من أجل رسم طريق لحقن دماء السوريين، ولكنه كعادة أهل الآيديولوجية العمياء التي تغذي صاحبها بشعور زائف بالتفوق، اعتقد أن تلك المبادرة نابعة من ضعف وتشتت للمعارضة، ولا يمكن أن يفهم أنها حقنا للدماء وإنقاذ بقية سوريا من الدخول في ظلامية جديدة أو تدمير كامل، لقد قدمت مبادرة الخطيب فكرة شراكة شجاعة انتقالية لإخراج سوريا الوطن من حمام الدم، ولم يكن سهلا تقديم تلك المبادرة لأن هناك محاولات لتخريبها من داخلها، إما بحسن نية وضعف في الفهم السياسي، أو بسوء نية، لأن المبادرات الإيجابية تخلق أعداءها، ولكن النظام، كما توقع كثيرون، قد ركب أجهزه قمعية عملها حماية الدولة من شعبها. إذا كان الحدث في المسألة السورية هو الآني اليوم، فإن التاريخ لن يترك هذه الفترة إلا بتسجيل فظائعها وأيضا بمحاسبة مرتكبي هذه الفظائع، ولنا في التاريخ عبر، لعل أقربها أن الأتراك بعد عشرات السنين، ما زالت تطاردهم مذابح الأرمن، وسوف تطارد الأسد ومن حوله مذابح السوريين، حتى وهم في قبورهم، مبادرة الخطيب مثل الاحتجاج السلمي لمقدسي، خوف على سوريا الوطن، يقابله بطش من سوريا الأسد. آخر الكلام: لا أعرف أن في الغرب نموذجا مطلقا يجب أن يتبع، ولكن هناك بعض الظواهر التي وجب التوقف عندها والتفكير فيها، منها حدث قبل أسابيع حيث جردت وزيرة التعليم الألمانية من شهادة الدكتوراه ونحيت من منصبها، لما كُشف أنها قبل سنوات طويلة مضت، اقتبست من مصادر ولم تذكرها، ترى كم من الشهادات العربية – لو طبق ذلك عليها – تبقى في أيدي أصحابها!! الله أعلم!!