محمد الرميحى | الشرق الأوسط
قضيت أسبوعاً في العاصمة الأميركية واشنطن، وهو أسبوع فاض بالتحليلات المختلفة حول قضايا جد شائكة؛ من الاستعداد للانتخابات النصفية التي يحتدم حولها الجدل، إلى مشكلات أخرى مستجدة ومعقدة في الشرق الأوسط. إلا إن ما يلفت النظر، وقد عايشت الأمر مباشرة، هو وجود هذه التي تسمى «جماعات الضغط» أو «كتائب المصالح»، وهي؛ أفراداً وجماعات، تدعو إلى هذا الأمر أو ذلك من شؤون الحياة العامة، وتزين للسياسيين اتخاذ القرارات التي تناسب تلك المصالح، أو على الأقل لا تتعارض معها. ربما الدولة الوحيدة التي تسمح بتسجيل رسمي لجماعة الضغط (أي مجموعة العملاء) للتأثير على سير التشريع هي الحكومة الأميركية. وتتعدد نشاطات تلك الجماعات؛ من الاهتمام بالمناخ، إلى الطاقة النظيفة، إلى السوق المفتوحة (الحرة)، إلى الدفاع عن شراء وحمل السلاح، إلى دعم المرشحين الذين يتبنون هذه أو تلك من القضايا التي تهم جماعة ضغط معينة، بل وحتى التشهير بالمعارضين لتلك المصالح إذا لزم الأمر!
الأصل في جماعات الضغط أنها مؤسسات غير ربحية تحصل على تبرعات من أفراد أو مؤسسات تدافع عن وجهة نظر في السياسة الداخلية أو الخارجية لها علاقة بمصالحها، أي شراء الإقناع السياسي لمتخذي القرار في الكونغرس الأميركي، للدفع بتبني هذه أو تلك من السياسات أو معارضتها، ويقدر أن هناك أكثر من مائة ألف شخص في العاصمة واشنطن، حسب قول أحد الخبراء الذين تحدثت معهم، كلهم يعيشون ويكسبون رزقهم من تلك النشاطات. هناك كثير من «شبهات» التورط في الفساد وتوظيف «المال السياسي»، وحتى الابتزاز من خلال تلك الجماعات، وفي بعض الأوقات تختلق تلك الجماعة أو هذه ما يعرف بـ«مراكز التفكير» لبيان وجهة نظرها، مغلفةً بلباس علمي أكاديمي.
من المفروض أن تكون تلك الجماعات مستقلة وغير ربحية، وكان يحدّ من تمويلها سقف مادي معين لا تتجاوزه، إلا أنه منذ يوليو (تموز) 2010 عندما أقرت المحكمة العليا الأميركية الاتحادية، أن من حق جماعات الضغط الحصول على الأموال «بمبالغ غير محدودة»، تعاظم دور جماعات الضغط في العاصمة الأميركية، وتحولت إلى «صناعة كبرى» وكتائب منظمة، توجه أو تؤثر بالفعل في إدارة دفة القرارات الصادرة في العاصمة، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، ولديها الخبرة بعمل الدولة العميقة. والتهمة التي يمكن أن «يلبسها» شخص ما هي أن يتورط كونه «عميلاً – وكيلاً» دون أن يسجل ذلك علناً في أوراق رسمية، لذلك تطول أكثر وأكثر قائمة المسجلين، وهم عادة من السياسيين السابقين، أو العاملين في الإدارات السابقة، لأن هذه الطائفة من الناس لديها القدرة على الوصول إلى متخذي القرار أو معاونيهم بسهولة ويسر. وتختلط «الميديا» مع «نشاط العملاء» بشكل واضح، لأن تلك الجماعات تشتري مساحات للإعلان في الصحف، أو وقتاً في الهواء (خصوصاً في المحطات التلفزيونية المؤثرة) نيابة عن عملائها؛ مما يشكل تبادل مصالح بين الطرفين.
من المفروض نظرياً أن تلك الجماعات تلتزم بما تسمى «أخلاق مهنية» في التعاطي مع القضايا التي تمثلها، ولكن تلك المهنية في كثير من الحالات تكون «مطاطة» وغير قابلة للقياس.
كثير من رجال ونساء ذلك الجيش الواسع من كتائب العملاء فتحت لهم «طاقة القدر» تجاه قضايا الشرق الأوسط، خصوصاً بعد تفاقم الخلافات العربية – العربية، فهم يتقاضون مبالغ مالية كبيرة للحديث مع الجماعات التي تطلب حضورهم، وقد يكون الواحد منهم منهمكاً في حضور ندوة يدعو أصحابها إلى توجه معين، وبعدها يذهب الشخص نفسه إلى ندوة يكون أصحابها في كتلة تواجهها مناقضة للأولى. عادة مثل هذا الخبير الذي يجلب اسمه عدداً من المستمعين، يأخذ المكان شبه المحايد أو يتبنى عنواناً مخاتلاً للتعبير عن وجهة نظره لإرضاء الطرفين معاً؛ الأمر الذي يسميه فقهاء العربية «اللغة المتهاترة» التي يناقض بعضها بعضاً.
المشكلة التي يواجهها المتابع المحايد أن ما يصدر من دراسات حول منطقتنا (الشرق الأوسط) عن تلك المراكز البحثية التابعة لمجموعات قوى ضغط مختلفة؛ يعدّ «معطى نهائياً» في نتائج أبحاثها، وثابتة القول النهائي في هذه القضية أو تلك، وخطابها البحثي يُستخدم من كثيرين في فضائنا العربي للدلالة على المصداقية، وأن تلك الفكرة السياسية قد جاءت من هذا المركز أو ذاك، ولكثير من المتلقين العرب مما يكتب من دراسات من تلك المراكز سلاح صارم، ودلالته قطعية؛ دون فهم أو وعي بأن «أجندة تلك المراكز» الخفية أو المعلنة، هي التي كانت وراء هذا التحليل أو ذاك في القضية المطروحة. هنا يقع المتلقي العربي في ارتباك شديد، حتى شبكة المطلعين في مجتمعاتنا العربية، كثير منهم يقبل بما يكتب وينشر من تلك المراكز دون نقاش!
المعركة القديمة في واشنطن كانت بين ما يعرف بـ«اللوبي الإسرائيلي» مقارنة بضعف «اللوبي العربي»، إلا أن الأمر يتغير في هذه الأيام، كما كل شيء، فقد اكتشف العرب أنهم يمكن أن يدفعوا برؤاهم ومصالحهم في هذا الفضاء الذي يشكل مركزاً للعالم، فكانت بشرى لكثيرين من ذلك الجيش بأن هناك رزقاً جديداً قد ظهر. العلاقة بين اللوبيات المختلفة وبين وسائل الإعلام القديمة (الصحف والتلفزيون) والجديدة؛ أي وسائل التواصل الاجتماعي، علاقة معقدة؛ فقد أصبح بالإمكان استخدام أسماء كبيرة (من الرجال والنساء) المتقاعدين من خلال وسائل التواصل الاجتماعي للدفع بهذه الفكرة السياسية أو تلك، بل واتهام الوسائل التقليدية بأنها تحمل «أخباراً مزيفة»! وبالتالي التشكيك في صدقيتها.
يعجب المتابع على الأرض كيف تتم صناعة القرار في هذه العاصمة المثلثة، التي خططها أصلاً مهندس مدن فرنسي بشكل معقد، من أجل عدم معرفة طرقها بسهولة، بل كانت خريطتها في الأيام الخوالي سراً لا يعرفه إلا قليل من الناس، أما اليوم فلم يعد هناك سرّ في واشنطن، خصوصاً إذا توفر الثمن المراد دفعه لتلك الكتائب المستعدة أن تدافع عن أي قضية يمكن لأصحابها دفع المال كي تحظى قضيتهم بمناصرين، وترسم صورة لها تقنع بعض متخذي القرار بالميل تجاه ما يرغبون.
عملية التدخل في صنع القرار المصيري للبعض في كبرى العواصم الغربية بهذه الطريقة تدخل الشكوك على منظومة عرفت حتى الآن بـ«الديمقراطية الليبرالية» التي أصبح المال أحد أهم محركاتها، أما المبادئ فهي فقط لاستهلاك العوام، وأكاد أقول المغفلين.
آخر الكلام:
قالت وهي تقدم نفسها إنها مختصة في شؤون الخليج. قلت وأنا أصافحها: ربما هنا في هذه العاصمة يوجد مختصون في شؤون الخليج أكثر عدداً من الخليجيين أنفسهم! كان ذلك تعليقاً شائكاً، ولكن كثيرين منهم «كحاطب ليل» يعرفون قليلاً وينظرون كثيراً!
رابط المقالة https://goo.gl/xCB11d