محمد الرميحى | الشرق الأوسط
ذلك هو العنوان الذي اختاره الصحافي جهاد الزين، لكتابه الذي صدر مؤخراً في بيروت: «المهنة الآثمة». حرصت على قراءة الكتاب لأني أعرف الكاتب عن قرب. وأعرف مدى جديته في مهنته ومهنيته، وفي المواقف الذي يتخذها، فهو مع مجموعة أخرى من الكتّاب اللبنانيين يقع خارج «الأهلوية الطائفية» التي سودت وجه لبنان بعد بياضه الثقافي التاريخي.
سواء وافقت جهاد الزين على بعض ما ذهب إليه أو خالفته، فإن الكتاب جدير بالقراءة المعمقة؛ لأنه مختلف، كاشف ومؤسس. هو ليس كتاب مذكرات، ولا هو مقالات سابقة، ولا هو كتاب تعليم بشكل ما، هو في الغالب التفكير بصوت عالٍ في مهنة الصحافي العربي بين الربعين، إن صح التعبير: الربع الأخير من القرن العشرين، والربع الأول من القرن الحادي والعشرين، قراءة تفكيكية وتركيبية، تدعو إلى التفريق الواجب والضروري، بين الصحافي والمنجم، بين المهني والعازف لمرضاة سيده!
العمل الصحافي في هذه الفترة من تاريخ العرب، ربما يصل إلى التوصيف الذي اختاره الكاتب (عمل آثم) مع شيء من المبالغة! حيث إنه يقدم في الغالب إما معلومات ناقصة، وإما مشوهة وإما حتى موجهة! الإطار الذي اختاره الكاتب لمجمل فصول كتابه إطار مشوب بالقلق، واللايقين تجاه كثير من العناوين السياسية العربية التي عايشها. يبدأ بالتشكيك في قدرة الصحافي مهما توفرت لديه من قدرات مهنية، على أن تكون لديه معلومات يقينية، كي يوجه أو يقترح حلولاً لما يواجه القارئ من أسئلة صعبة، وحبيسة مواقف مسبقة، أو يقينيات تراثية خاطئة.
في الغالب، يصل الزين إلى قناعة عامة وصل إليها كثيرون، هي أن أغلب من يكتب لا يعرف، وأن أغلب من يعرف لا يكتب، ويغمز الزين على شجاعة بعض الكتّاب العرب، في أن يفتوا فيما لا يعرفون، أو على الأقل ليس لديهم يقين فيما يسطرون. الكاتب الصحافي العربي في نصف قرن الأزمة، يستجيب في كثير من الأحيان لما يسمع أو يشاهد أو يراقب من أحداث، وبسبب تغير تلك الأحداث وتبدل المواقف والتوجهات السريع، يبقى أسير تحليلاته أو تحزباته الخاطئة، يتمنى ألا يعيد أحد قراءة ما كتب! ويضرب لذلك أمثلة، كيف قرأ الزين مظاهر الاصطفاف في بعض ما شاهد في احتفالات رسمية أقامها رئيس السلطة في هذا البلد العربي أو ذاك، ولاحظ بعين الصحافي، أن القرب البروتوكولي من رأس السلطة لا يعني القرب السلطوي.
ثم يعرج الكاتب إلى ملف آخر يؤرق كل صاحب قلم، وهو العلاقة بين صاحب القلم وصاحب السلطة! ويقرر أن نفوره من «أصحاب السلطة» على المستوى الشخصي، نابع من تجربة مستقرة في معادلة عكسية، كلما قرب الصحافي من صاحب السلطة، قلَّت قدرته على الاستقلالية.
في الثقافة العربية السائدة في النصف قرن المضطرب (بين آخر ربع ماضٍ، وأول ربع آتٍ)، كان الاعتقاد السائد لدى سواد القراء، أنه كلما قرب الصحافي من السلطة أو رأسها على وجه التحديد، كانت له مصداقية عالية في التحليل. تلك كانت أكذوبة، شربها أكثر من جيل من العرب، وأطعموا كماً من التضليل، ما زالت تأثيراته شاخصة في تخلفنا العام!
يوظف الكاتب تجربته الغنية في مناقشة أخرى لافتة، و«ثيمة» مركزية، وهي فكرة «المقال اللامقال» أي ذلك المقال الصحافي الذي لا يضيف فكرة أو معلومة أو اقتراحاً أو نقداً، ويسمى الكاتب مقال اللامقال «خدعة مهنية»، أو «التفاهة المريحة»، فهو مدبج بكلمات المديح والتعظيم الخشبية، أو معبأ بالانحياز الآيديولوجي.
ويستطرد بأنه لاحظ وجود «مقالين» في معظم الكتابة السياسية العربية؛ واحد في المجال العام، بما كُتب، وآخر خفي لم يُكتب. تفسير الزين لهذا الوضع المرتبك: علاقة الكاتب بالسلطة وأسيادها والمستفيدين منها من مفسري الكلمات. ويعمم أن لا فرق بين كاتب كبير وكاتب تافه، متى ما تدنى سقف الحريات في المجتمع، أو ساد الإرهاب الفكري. فإن أي مقال له ظاهر بيِّن، ومستتر مختبئ! يوصِّف هذا المشهد بأن الكاتب العربي وهو يكتب، يتصور أصحاب النظارات السوداء الذين لا يراهم القارئ، ولا يراهم إلا الكاتب، ويتجول بينهم افتراضياً، يتحالف معهم داخل «النص» ويتواطأون عليه خارج النص! كل هذه الملحمة، يقول الزين إنها تجري داخل رأس الصحافي، وتبعث بموجاتها القوية أو الخفية إلى أصابعه، فيحرك بها قلمه، أو أزرار كومبيوتره!
عاتب الزين الكاتب إدوارد سعيد في جلسة خاصة على كتاباته الساخنة، التي وجدها متحاملة تجاه بعض خيارات منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، وقال له: «يبدو أن هناك اثنين من إدوارد سعيد، لا واحداً»، فقال إدوارد سعيد بسرعة: «جهاد، أشكرك على تلك الملاحظة؛ لأني أعتقد أن هناك تسعة إدوارد سعيد، لا اثنين فقط»! يمكن الاستنتاج من هكذا حوار أن الصحافي أو الكاتب يمكن أن تكون لديه معلومات خاطئة، أو مواقف مسبقة، وقد تكون حتى شخصية، كي يتبنى كتابات «غير مدروسة»، ويقول لقارئه إن ذاك صحيح وهذا خطأ، وهو يرتكز على أهواء أكثر من كونه تحليلاً عقلياً موزوناً، يتوجه إلى تحقيق الخير العام!
قد يصدم البعض، وليس الكل، مما سطره الزين في ملاحظة قد تكون ثاقبة أو صادرة ربما من مكان عميق من الإحباط، في نظرته إلى «اليمين» و«اليسار»، في اجتهاد العرب السياسي. فقوله: «هناك تفاوت مدهش بين العمق الثقافي للتحليل اليساري (العربي)، وبين قوة الرؤية الواقعية لليمين (العربي)، رغم سطحية الأخير الثقافية!». تلك عبارة مفتاحية من رجل له خبرة الزين العملية، فهو مقتنع بالتحليل العقلي القادم من اليسار، ولكن ما يشاهده من نتائج على الأرض يجعله يشكك في مرامي مدرسة اليسار العربي السياسية.
لا تفارق جهاد الزين في كتابه الشجاعة الأدبية، فهو يقرر تحولاته الفكرية، وتبدو مواقفه جلية في عبارات مفتاحية، كمثل سؤاله: هل تجوز حماية المقاومة وتدمير لبنان؟ ويجيب: «لا». الثانية تقريره أن صعود الطائفة الشيعية في لبنان، هو «انحطاط أشمل للدولة». ويا لها من تعبيرات شجاعة واقعية في آن.
وكما هي العادة، فإن جهاد الزين لا يفتأ أن يبتكر مفاهيم جديدة، فقد أعجبني قبل سنوات طوال مفهومه «الهلال الخصيم» يوصِّف شدة الصراع في المنطقة التي تسمى الهلال الخصيب. واليوم يقدم لنا مفهوماً آخر سمَّاه «عضة التكنولوجيا»، ويعني به الآثار السُّمية لاستخدامنا للتقنية الحديثة في فضاء ثقافي رمادي.
رغم إعجابي بالكتاب، وإقراري بأنه يفتح أبواباً كثيرة وواسعة للتفكير، من الموقف السياسي إلى طريقة الكتابة واستخدام اللغة، وشروط الكاتب المؤثر، فإني لا أتفق مع حصره للأمثلة من أسماء الكتاب في محيط ضيق، بدا لي – وليسمح لي الصديق – أنها «مركزية فضاء شرق البحر الأبيض» على أكثر ما يمكن توصيفها، وتجاهل كما تفعل تلك المدرسة، كُتاباً يُسمون «كُتاب الأصفر»، تفريقاً لهم عن «كتاب الأخضر»! ربما وقع الزين في تلك المركزية دون كثير وعي لها!
آخر الكلام:
على عكس ما يعتقده كثيرون، فإن كتابات عربية معاصرة كثيرة كمثل الكتاب السابق، أعادت النظر في مسلمات الربع الثالث من القرن العشرين، بما فيها الاشتراكية العربية! والصحوة! إلا أنها لم تحصل على مساحة معقولة من النقد والإشهار معاً!
رابط المقالة https://goo.gl/mDdNN4