محمد الرميحى | الشرق الأوسط

اللاعبان الأساسيان على مسرح الشرق الأوسط السياسي هما الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، وكلاهما اليوم يتنازعان في وقت، ويتفقان في وقت آخر على رسم خريطة جديدة لمنطقتنا، وكلاهما غير قادر على أن يفعل ذلك منفرداً! الأقدم في التعامل مع قضايا المنطقة هي الولايات المتحدة، وهي اليوم، تحت قيادة السيد ترمب، في مكان رمادي ومحفوف بالمخاطر، ليس فقط بالنسبة لنا، ولكن أيضاً حتى بالنسبة لحلفاء أميركا التقليديين في الغرب والشرق، أيضاً للجمهور الأميركي الأوسع الذي تتصاعد انتقاداته لسياسات الإدارة. تعقد الوضع في الداخل الأميركي توصفه مجلة «الإيكونوميست»، في عددها الأول لعام 2019، بالتالي: لو كان البيت الأبيض شركة مساهمة وتفاقم عدد المستقيلين والمقالين في إدارتها، كما هو واضح في البيت الأبيض، لفكر كثير من حاملي الأسهم في بيع أسهمها، لأنها شركة يمكن أن تفلس في أي وقت. إلى هذه الدرجة يبلغ عدم اليقين في سياسات البيت الأبيض، التي تبنى في الغالب على (انطباعات) بدلاً من الحقائق الموضوعية المعتمدة على سماع الاستشارات من ذوي الاختصاص.
قضية السيد دونالد ترمب تتوجه إلى خواتيمها المحتملة، فهو قد جعل مناصريه وأعداءه، على السواء، يجمعون اليوم على أنه يدير البيت الأبيض ومصالح الولايات المتحدة الكبرى والأساسية حسب (هواه الشخصي)، فقد فشل في عدد من الملفات، من بينها كوريا الشمالية، وأطلق معركة تجارية مع الصين أضرت في النهاية بالاقتصاد الأميركي، وفقد على مدار السنتين الماضيتين عدداً من حلفائه الغربيين، الذين دفعت أميركا خمسين عاماً تقريباً ومليارات الدولارات وعشرات الآلاف من الضحايا حتى تقيم معهم ذلك الحلف الغربي، وهذا من بين أمثله كثيرة تشير إلى ضياع البوصلة السياسية.
تنصح «الإيكونوميست» في تقرير آخر في نفس العدد، حلفاء الولايات المتحدة، بأن يفكروا في الخطة ب، في علاقتهم بواشنطن، لأن من هو في البيت الأبيض قراراته السياسية غير منتمية للواقع، ولا أحد يعرف متى يمكن أن يغير رأيه في هذه القضية أو تلك. المثال في منطقتنا الانسحاب من سوريا، وأيضاً التفكير في الانسحاب من أفغانستان، حتى الآن لا يستطيع أحد أن يقرر ما إذا كانت السياسة هي الانسحاب أو البقاء! وكلما ضاقت السبل على ساكن البيت الأبيض في الداخل، واشتد غبار المعركة السياسية في واشنطن، والتي من المتوقع أن تتفاقم في الأشهر القليلة القادمة، خلق البيت الأبيض أزمة في مكان ما، على شرط أن تبدو وكأنها (خدمة لأميركا).
هذا ما تم في سوريا، التي لم تتشاور الإدارة فيها حتى مع أقرب من تعاملوا معها، وهم فصيل من الكرد الذين وجدوا أنفسهم مكشوفي الظهر. السؤال هل هذا يخدم في مكان ما مصالح حليفها ومخالفها في نفس الوقت النظام التركي؟ واضح أن القرار قد وضع الأتراك أيضاً في مأزق آخر، كان التخطيط أن يصل الطرفان الأميركي والتركي لحلول وسطية لما تسميه أنقرة بوجود الإرهابيين الكرد، على أساس ألا يموت الذئب ولا تفنى الغنم. مع الانسحاب الأميركي المتردد وجد الأتراك أنفسهم غير قادرين على الإقدام (شن حرب على الجانب الكردي) ولا على التراجع (القبول بالوضع كما هو قائم)، في نفس الوقت فقدوا من يلجم في الوقت المناسب القوة الكردية، وكان الوجود الأميركي!
على الطرف الآخر، فإن روسيا الاتحادية رغم ترحيبها بالانسحاب الأميركي من المسرح الشامي، فإنها كانت تحت تصور أن أميركا سوف تساعدها بشكل ما على الانتهاء من هذا المأزق (السوري) من خلال الوصول إلى تسوية تشاركية، ومن جديد بحلول وسطية، كونها طرفاً مؤثراً في رسم بعض السياسات الإسرائيلية، ولها علاقة بأطراف سياسية أخرى في المنطقة، إلا أن إعلان الانسحاب المفاجئ قد وضع الروس في موضع لا يحسدون عليه، فمن جهة هم من ساعدوا بشار الأسد على البقاء في الحكم، وهم من غطوا سياسياً حتى استخدامه للسلاح الكيماوي، وقدموا له دعماً بالطيران والأسلحة أبقاه في قصر المهاجرين حتى الآن، إلا أن المشكلة لا تنتهي هنا، فبقاء (المريض السوري) على سرير الصراع سوف يترتب عليه غوص أكثر لروسيا الاتحادية في المستنقع السوري وتحمل أكلاف في الجنود والموارد، ومواجهة في وقت ما، ليس فقط مع قطاعات واسعة من الشعب السوري تطالب بالعدالة والدولة المدنية، ولكن أيضاً مع المصالح الإيرانية والتركية من جهة، والإسرائيلية من جهة أخرى، وجميعها متعارضة في الأهداف.
أما النظام في دمشق فله خطط أخرى، فهو يعتبر نفسه قد انتصر، ويرغب في أن يكمل هذا الانتصار من خلال عملية (إحلال اجتماعية كبرى) بديلاً عن الأغلبية السورية المزعجة له، والإتيان ببديل عنها من الإثنيات الصغرى، التي تخدم في رأيه بقاءه. مؤشرات تلك السياسة هي الوقوف أمام عودة اللاجئين الذين فروا من بلادهم، إلا بشروط يفرضها النظام الأمني، بحجة الخوف من تسرب (الإرهابيين)!، وبالتالي منع غير المرغوب فيهم من العودة إلى ديارهم، وتغطية ذلك بقوانين، منها قانون الاستملاك القسري لسكن وممتلكات من غادر بيته وأرضه مرغماً. النظام في سوريا يريد تحقيق هدفين متصادمين؛ العودة إلى الماضي، وفرض نظام شمولي قهري كما كان في السابق، (وكأن الثورة لم تقم ضد النظام طلباً للعدل)، والثاني البقاء في الحكم على قمة إثنيات مصغرة، يسهل دق أسافين بينها لإدامة النظام. ما هو قطعي وثابت أن السياسة الطائفية التي يتسم بها حاكم دمشق ومساعدوه العسكريون، سوف تضاعف الشعور بالإحباط والتهميش لدى غالبية الشعب السوري، وتفتح الباب مجدداً لأشكال من التنفيس، تشابه «داعش» وربما تفوقه، فانسداد الطرق أو ضيقها لتطوير عمل مؤسساتي ودستوري جديد في سوريا، يوزع السلطة ويوازنها، ويكبح الفساد، وربما ينتج شيئاً من الاستقلال الإداري المناطقي، هذا الانسداد سوف يؤجل، إن لم ينفِ، أي احتمال لاستتباب الأمن، بل ويؤهل إطالة الصراع.
روسيا يمكن أن تجد نفسها سريعاً أمام (فيتنام صغرى) في الشام، تستنزف قواها، إن لم يكن لدى القادة الروس الرؤية الحصيفة والقدرة على (لي ذراع) الحليف في دمشق، الذي تم إنقاذه، من أجل إرغامه على تقديم تنازلات مؤسسية، وإرجاء (الاحتفال بالنصر) و(تهنئة النفس) إلى وقت آخر. خروج الولايات المتحدة من سوريا لا يساعد تركيا، ولا بالتأكيد روسيا، على رسم خطط توافقية. ربما من سوف يعتبر ذلك انتصاراً، ولأسباب آيديولوجية، هو النظام الإيراني، لبيع ذلك على العامة من مناصريه، ولكن حتى الأخير لا بد أن يحسب حساب حليف الولايات المتحدة غير المنازع إسرائيل، حيث إنه لو (دعست) إيران في الشام أكثر مما تطيق تل أبيب، فربما تنطلق حرب بالوكالة، تجعل المنطقة بكاملها غير مستقرة، ربما إلى عقد آخر!
أمام هذا المشهد وقطبيه، واحد منهما تتآكل الثقة في سياساته بشكل عام، ومن غير الممكن توقع توجهاته التي تبدو أنها خارجة على المنطق وبعضها متناقض، وآخر غير قادر على فرض تسوية نهائية بسبب تشتت مصالح الحلفاء المتناقضة (التركية/ الإيرانية) أو عدم رغبته في دفع أثمان سياسية وتكاليف مادي.. أمام ذلك فإن خط الصراع في الشرق الأوسط ليس قريباً إلى النهاية في العام الجديد، وسوف يتأثر هذا الصراع بنتائج صراعات أخرى، بعضها في طهران وأخرى في أنقرة وثالثة في موسكو والرابعة بالطبع في واشنطن!
آخر الكلام: أحد خبراء السياسة الأميركية قال، في محاضرة عامة، إن سياسة السيد ترمب في الشرق الأوسط لا تختلف كثيراً عن سياسة سابقه السيد أوباما، الاختلاف فقط في الإخراج!!

رابط المقالة https://goo.gl/FmHLRT