محمد الرميحى | الشرق الأوسط
على الفضائيات الدولية، وفي بعض المقالات التحليلية، يتبرع بعض الإخوة المعلقين من العرب، خصوصاً على الفضائيات التابعة لدول أجنبية، التي تملأ الساحة الإعلامية اليوم، بالقول بنبرة جازمة حول العلاقات العربية – الإيرانية بشكل عام، ومن جهة خاصة العلاقات الخليجية – الإيرانية. خلاصة قولهم في هذا الملف إن «الأفضل والأكثر حكمة، وربما توفيراً في الجهد والمال» أن يتوافق الخليجيون مع إيران! وهذا القول بأشكال مختلفة وبعبارات متغيرة ينقله أيضاً بعض المحللين الخليجيين، على الأقل في الندوات المغلقة. لا أريد ولا أرغب ولا أسمح لنفسي بالدخول في مناقشة النيات، فذلك علمه عند الله، ولكن أريد أن أناقش الموضوع من زاوية تحكيم المنطق العقلي. أعرف مسبقاً أن البعض لن يروقه هذه التحليل، فنحن كعرب اليوم منقسمون في كثير من القضايا، والناس تنقسم في الآراء بسبب خلفيتها السياسية أو تحيزها المسبق، أو بسبب معلومات ناقصة أو غير متوفرة، أو في بعض الأحيان من أجل المناكفة والنكاية لا غير. كل ذلك وارد وممكن، فطبيعة الاختلاف ربما هي الطبيعة الثانية للبشر. نعود إلى القول إن الأفضل أن يكون هناك «وفاق» خليجي مع إيران، يجنّب المنطقة الكثير من الشر الذي يختفي خلف أقنعة كثيرة، يبدو القول على كلياته قريباً إلى القبول!
ولكن كما يقال دائماً «الشيطان في التفاصيل». فأولاً إن أيَّ «وفاق» يحتاج إلى أن يكون أطرافه قابلة على الدخول في «عملية الوفاق» بشكل متكافئ، من أجل الوصول إلى الهدف النهائي. فعلى أي واقع أو مستند أو أقوال يقرر الإخوة الداعون إلى وفاق مع إيران أن الطرف الإيراني يقبل بأن يدخل في حوار يسير نحو الوفاق، أو يدخل في نقاش دبلوماسي، أو حتى قنوات خلفية، لبدء مثل هذه العملية؟ جُرّب ذلك جزئياً مع مرحلة رفسنجاني ومن بعده خاتمي، إلا أن التشدُّد هو الذي تفوّق في النهاية!
الطرف العربي الخليجي واضح جداً في حدود ما يرغب فيه من إيران، نقاط الرغبة تأتي من معلومات وليس تكهنات. إن موقفه بسيط واضح، يتلخّص في أن تكف إيران عن التدخل في الشؤون الداخلية لجيرانها العرب، وأن تتصرف كدولة مسؤولة مقيدة بالقوانين الدولية التي تفرضها المعاهدات الدولية. هذا الأمر على إطلاقه غير متوفر لدى الدولة الإيرانية، على الرغم من بعض الرسائل الإعلامية. إن هناك «دولتين» في إيران؛ واحدة «معتدلة» ترغب في الحوار، وأخرى «ثورية» ترغب في نشر رؤيتها في الحكم والإدارة على الآخرين وحتى بالقوة، الأخيرة في الغالب هي الأكثر تمكناً في النظام الإيراني القائم، وهي غير قابلة للحوار، ولا تفرق مع الأسف بين فقاعات الأماني، وصخور الحقائق. ثانياً تلك الثورية لها مرجعية تعبوية سياسية مغلقة ومغلفة بالكثير من الغطاء «المذهبي»، فأساس المشكلة مع إيران، على عكس ما يتصور البعض، سياسي، أكثر بكثير من كونه «مذهبياً»، هو نوع من الآيديولوجيا التوسعية، مغموسة في وعاء مذهبي.. فكرة يقينية ذات نزعة تبشيرية واستعلائية.
الخلاف المذهبي في الحالة الإسلامية أقل بكثير من الفروق المذهبية والثقافية في الديانة المسيحية على سبيل المثال، وقد مرّت تلك الثقافة بصراعات مذهبية دموية دامت عقوداً، وخرجت أوروبا في النهاية بدرس ثمنه الكثير من الدماء. إن الخلاف المذهبي والثقافي لا «يفسد الود»، إن نُقّي من المصالح التوسعية وشهوات الهيمنة، بل هو إضافة، إن فُهم في حدوده الاجتهادية ووُظّف بشكل حضاري وإيجابي.
الفرق أن هناك افتراضاً لدى القابضين على السلطة في إيران بأنهم يمثلون «ثقافة المغلوبين»، ولديهم مشروع سياسي «لتمكين هؤلاء المغلوبين» أو حسب التعبير الثوري الإيراني، «المستضعفين»، وأن من واجبهم، حسب ذلك الافتراض، «تحرير المستضعفين» في الجوار العربي! بما فيه «تحرير فلسطين»!
هو افتراض في حده الأدنى سوء فهم، وربما ينطوي على سوء نية! وهذه الثقافة أصبحت فلكلورية، أقرب من كونها عملية أو مقنعة، لأنها لم تعطِ أيّ نتائج في إيران نفسها، فلا العمل توفّر لكثير من الشباب الإيراني، ولا الاقتصاد انتعش، ولا الحريات ازدهرت، وقد برز الاجتماعي السياسي في إيران، وتوسع بين المكونات الإيرانية نفسها. إذن الافتراض بأن «المشروع» يمكن أن يكون قابلاً للتصدير في الجوار هو متابعة للوهم أكثر منه احتمالاً واقعاً. ثالثاً، ومن جانب آخر، فإن شعار الوقوف مع المستضعفين فُرّغ من محتواه للعقلاء على الأقل. فوقوف إيران مع نظام ديكتاتوري فظّ غليظ اليد في سوريا قتل مئات الآلاف من شعبه المستضعف، وخرّب مدناً وطرد ملايين من المستضعفين خارج أرضهم، هذا الوقوف بالسلاح وبالرجال وبالمال، فرغ ذلك الشعار من مضمونه، وأصبح شعاراً ذا طبيعة انفعالية لا أكثر. طبعاً هذا بجانب ما تقوم به إيران في العراق، وهي تتدخل هناك دون أن تقرأ تاريخ الشعب العراقي، حتى الحديث منه، كمثال جلب صدام حسين عدداً من العرب (غير العراقيين) إلى العراق من أجل تأييده، وأغدق عليهم الامتيازات، مما أوغر قلوب العراقيين، ولما توفرت الصدع المناسبة، قام الشعب العراقي بالتخلص منهم، كما ذكر لنا المرحوم فالح عبد الجبار في كتابه المهم «العمامة والأفندي».
إن العراقيين أطلقوا النار من الخلف على بعض ذلك الفيلق العربي، بمجرد أن تقدمت القوات الأميركية عام 2003 باتجاه بغداد! ليس كرهاً في العرب، ولكن كرهاً في مناصرتهم لنظام تسلطي في العراق، هذا يعني أن الوطنية العراقية، مهما ظهر أنها قد «تسامحت» مع الوجود والنفوذ الإيراني، تخزّن «مقاومة» حقيقية لهذا التدخل، والدليل أمامنا اليوم في «تململ» بعض القوى السياسية العراقية من ذلك التدخل.
كما تقوم إيران بأشكال أخرى في اليمن وفي لبنان بتدخُّل غير مرحب به من غالبية الشعبين اليمني واللبناني، وهي عناوين لا تحتاج للعودة إلى شرحها، وأما الوقوف مع الفلسطينيين، فذلك شعار لا يهضمه اليوم إلا البسطاء، فلا شبر تحرر، وليس بالوارد قيام صدام إسرائيلي – إيراني في خيال متخِذ القرار في طهران!
إذن رابعاً فإن الوصول إلى سن الرشد الإيراني قد يتأخر، وقد يسبّب ذلك التأخرُ الكثيرَ من العناء والألم للشعب الإيراني أولاً بكل مكوناته، وسوف يستمر الشحن العاطفي من جهة، والمقاومة من جهة أخرى لدى قطاع واسع من الإيرانيين، حتى الوصول ربما إلى مرحلة «التفجر»! خامساً بالنسبة للبعض الذي يرى أن «الخليجيين العرب» هم من يقفون ضد وفاق ما مع إيران، فإن أقوالهم تسير في اتجاه الريح التي تقوم اليوم بشيطنة الخليجيين، وهي تحيُّزات يصدقها المستمع والقارئ «الضرير» الذي يرى ولكن لا يبصر الحقائق، أما من يعرف الواقع فهو يشاهد هذا التدخل غير المبرر وغير المؤدي إلى نتائج ملموسة من الإيرانيين في الشأن العربي، كل ما أنتج هو خراب ودماء، فمشروع إيران السياسي خير ما يوصف به أن له مظهراً من مظاهر «المغالطات المنطقية»، مشروع كهذا كيف يمكن خلق قنوات للحوار معه؟!
آخر الكلام: إذا لم تكن قادراً على التحكم في سرعة الريح العاتية، فعلى الأقل عليك أن تتأكد من قوة أوتاد خيمتك!
رابط المقالة https://goo.gl/y27smg