د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري | صحيفة الرؤية – عُمان

خليجيُّو اليوم يتسابقون في تشييد ناطحات السحاب، في مدنهم الساحلية المطلة على الخليج، مدينة دبي موطن لأعلى بناء شيده الإنسان عبر التاريخ البشري، ومن يُراجع تاريخ الخليج، قبل قرن، ويطالع العمل الموسوعي الفذ “دليل الخليج” الذي جمعه وأعده الضابط البريطاني لوريمر وما كتبه الرحالة البريطاني الشهير وليم بلغريف في كتابه التوثيقي المهم “وسط وشرق شبه الجزيرة العربية: 1863-1862″، يجد تلك السواحل -التي تعد الأجمل منظراً والأعلى سعراً اليوم- كانت أميالاً بعد أميال من الرمال المُوحِلة ذات الروائح الكريهة تحت الشمس الحارقة، تضم بيوتاً (عشش وبرستيات) مبنية من السعف وجذوع النخل والحبال، يصفها (بلغريف) بالكئيب البائس، ويقول لوريمر عن منظر سكانها، صحتهم معتلة بسبب كثرة الغوص من أجل اللآلئ.

ما كانت لهذه الأبراج الشاهقة أن تشاد، وتزدحم بها العواصم الخليجية، وتنافس بها مدن العالم المتقدم، لولا التطور التقني السريع الذي شكل ثورة هائلة في أساليب البناء والتعمير، صعوداً إلى السماء، أولاً، ولولا حرص الخليجيين على التحديث التقني واستيراده، والإفادة من أحدث التطورات التقنيات المعمارية، ثانياً .

المجتمع الخليجي اليوم، بفضل الثروة الريعية، الأكثر بين المجتمعات العربية جلباً للمنتج التقني الغربي والشرقي وبمختلف أنواعه وآلاته ومعداته ونظمه ووظائفه، وعلى كافة الأصعدة، كما أنه الأكثر استخداماً واستهلاكاً له، والأكثر انفتاحاً على عالم التقنيات وانغماساً فيها.

لكنَّ المنتجات التقنية ليست آلات صماء مجردة، وإن بدت كذلك، إنها تحمل ثقافة موطنها، وتحمل علم ومعرفة ونظام وروح بيئتها، وهي عندما تنتقل إلى بيئة أخرى، تحمل قيمها الثقافية معها، وعاجلاً او آجلاً، لا بد أن تحدث تغييراً ثقافياً في البيئة المنتقلة إليها، وصداماً بين قيمها وقيم الثقافة التقليدية للمجتمع الجالب لها؛ لهذا وجدنا حراسَ الهوية، خاصة الحراس المتشددين دينيًّا، في الماضي، بالمرصاد لها، يقاومونها، ويحرمونها، ويحذرون الناس من شرورها، ولعلنا نتذكر كيف قاوم “الإخوان” القوة الضاربة لجيش الملك عبدالعزيز، دخول اللاسلكي (التليفون والتلكس والسيارة) منطقة نجد، وعارضوا المنتج الغربي بشدة، وأنكروا على الملك عبدالعزيز قبوله وتسامحه مع استخدام هذه المنتجات الغربية الحديثة التي سموها “آلات شيطانية”، ونوعاً من “البدع” تجب محاربتها والتخلص منها، ووصل رد فعلهم إلى حد سل السيوف واستخدام العنف وقطع الطريق وإثارة القبائل ضد عبدالعزيز، كادت أن تؤدي إلى حرب داخلية خطيرة. لولا حزم الملك عبدالعزيز الذي تحدى “ثقافة التصحر وقيم البداوة”، وكان حاسماً في مواجهة الإخوان في “السبلة” 1929، وهزمهم وقبض على قادتهم وشتت شملهم، ووطد حكم النظام وأمن الطرق وأعاد الاستقرار، وفرض “التحديث التقني” ونظم الإدارة الحديثة.

الخليجيون، جَلبوا كافة المنتجات التقنية: من سيارة إلى هاتف خلوي إلى ملابس إلى سلع مختلفة، ونظم إدارة واقتصاد وتعليم وعمران وتجارة ونقل، وحتى البحث العلمي، دون المعرفة العلمية التقنية، لَم يجلبوا الفكر والفلسفة والنظم الحداثية والتشريعات الحقوقية والعدالة والعقلانية وروح العلم الحديث التي تقف وراء هذه المنتجات، وظنوا أن “الاستيراد الانتقائي” من الحضارة المعاصرة، أي الأخذ بـ”التحديث التقني”، دون “التحديث الفكري والثقافي والسياسي والحقوقي” يُمكِّنهم من تملك “المعرفة العلمية”، ويضمن لمجتمعاتهم اللحاق بركب المتقدمين.

لكن تجارب نصف قرن أكدت أن كل ذلك وهم وسراب خادع نظل نجري وراءه دون أن نلحقه أو نحققه.

وختاماً : الخليجيون، وبسبب تجذُّر تقاليد القبيلة، وهيمنة قيم البداوة، هذا من ناحية، ووجود الفائض الريعي من ناحية أخرى، حصنوا ثقافتهم بأسوار عالية، وعسكروا نظمهم التعليمية والسياسية والاجتماعية، ظنًّا منهم أن في ذلك عاصما لثقافتهم وهويتهم ونظمهم السلطوية المتوارثة، أمام رياح التغيير العاتية.

لكن ما هو حاصل اليوم في الساحة الخليجية من ظواهر الفُرقة والانقسام، وهدر الأموال في تعميق الخلافات، ما هو إلا محصلة هذه الذهنية المتوجسة من التغيير.

 

رابط المقالة https://alroya.om/post/241141/الثقافة-الخليجية-والتحديث-التقني-(1)