عبدالحميد الانصاري | الرؤية

الثروة الهائلة التي أنعم الله تعالى بها على الخليج، منذ نهاية السبعينيات، والتيار العولمي المكتسح للحواجز، بدءاً من أواسط الثمانينيات، أسهما بشكل فعال في تحديث البنى الاقتصادية لمجتمعات الخليج، وارتفعت نسبة دخل الفرد الخليجي، وظهرت علاقات اجتماعية وأنماط من السلوك، صاحبتها مظاهر استهلاك عالية للسلع الحديثة، واستخدام مكثف للتكنولوجيا، إلا أن “التغير الثقافي” لم يواكب “التغير المادي”؛ مما أدى لتضارب بين أساليب التفكير والقيم والعادات الماضية والثقافة الحديثة، هذا الخلل يسمى “الهوة الثقافية” وهي حال المجتمعات الخليجية، طبقاً للروائية المعروفة بدرية البشر، في رسالتها للدكتوراة “وقع العولمة في مجتمعات الخليج العربي: دبي والرياض أنموذجيْن”، مركز دراسات الوحدة العربية 2008 بيروت.

الخليج الذي نَجح في تحقيق التحديث الذي نُشاهد تجلياته في كافة مظاهر الحياة الخليجية الحديثة: في التطور العمراني مجسداً في الأبراج العالية والناطحات التي تعانق السحاب عنان السماء، والتي ازدحمت بها المدن الخليجية، وفِي المشاريع الإنشائية العملاقة، وفِي منشآت البنية الأساسية: الطرق السريعة والأنفاق والجسور وشبكات ومحطات المياه والكهرباء والصرف الصحي العملاقة، والمستشفيات والجامعات والأسواق والمجمعات التجارية الضخمة (المولات) والمستوطنات السكنية المسورة والتي تشكل جزرا منعزلة، إضافة للتطور السريع كمًّا وكيفًا في الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية، ونظم التعليم والجامعات والمراكز البحثية وفِي كفاءة توظيف تقنيات الاتصال والتواصل.

تغيَّر الخليجيون خلال 30 عاماً وتغيرت أساليب وأنماط معيشتهم واستهلاكهم، وانفتحوا على الآخرين، وساحوا في الأرض طولاً وعرضاً، ترحالاً واستثماراً، وصار للخليج مكانة ودور مؤثر في محيطه الإقليمي والدولي، تغيرت التشريعات الخليجية وتطورت، وأصبحت للدول الخليجية دساتير عصرية ومؤسسات حديثة.

كلُّ هذه التغيرات انصبَّت على الأشكال والهياكل والتقنيات والمظاهرالاستهلاكية دون الجوهر والمضمون والروح.

تغيرت الحياة الخليجية رغداً واستهلاكاً مفرطاً وهدراً للثروة والنعم، شيء واحد استعصى على التغيير (الثقافة المجتمعية)، لا يزال الخليج يفتقد بعضا من “العقلانية” كنمط تفكير، ونوعًا من “الرشد” في حل الأزمات وإصلاح فساد ذات البين، فالقيم الثقافية الخليجية، لا تزال تتغذى وترتوي من معين لا ينضب، من قيم وروح “الفزعة القبلية” الموروثة من أعراف ما قبل الدولة الحديثة، فالسلطة “أحادية” النزعة، لا تقبل المشاركة العامة، وهي “زجرية” في سلوكها تجاه “المثقف المستقل” لا تقبل منه إلا أن يكون “بوقا صداحاً” أشبه بـ”شاعر القبيلة” في النظام القبلي القديم، مادحاً للذات وهاجياً للآخر المخالف، ولا تزال “المواطنة” مفهوماً نظريا لا ترجمة له على أرض الواقع، تحوَّلت إلى نوع من الولاء للعشيرة والطائفة. المرأة المواطنة تعيش مواطنة منتقصة، محرومة من حقوق ينعم بها الرجل المواطن، لا تستطيع منح جنسيتها لأولادها، لا يزال قطاع عريض من المواطنين محرومين من امتيازات يتمتع بها المواطنون الأصليون، قطاع عريض من البدون في المجتمعات الخليجية يعيشون حياة بائسة ويعانون أوضاعاً محبطة وصلت إلى انتحار أحدهم، هذه أوضاع مخجلة في عالم قد تجاوز هذه المواريث، وبقي الخليج يقتات عليها متحديا روح العصر والمواثيق الحقوقية الدولية التي وقع وصادق عليها، لا يليق بالخليج وأهله وقد أنعم المولى عليهم نعمه الواسعة، وآمنهم من خوف أن تستمر مثل هذه الأوضاع المأساوية بينهم! أولى بالخليج أن يبادر لتصحيح أوضاعه، وإنصاف المظلومين بيده، قبل يد عمرو.

وأخيرا: إلى متى يظل الخليج يتحدى العصر، ويرفض التغيير السياسي والثقافي والاجتماعي؟! إلى متى يعيش وضعاً متناقضاً: وجه خارجي حداثي وآخر داخلي ماضوي: دساتيرها وإعلامها تتغنَّى بالحريات وحقوق الإنسان وتشريعاتها وممارساتها تقوم على التمايزات، أو كما في تغريدة الأستاذ أحمد الأنصاري: دساتيرها عامرة بالقيم الإنسانية والحقوق لتواجه بها أحرار العالم عند الحديث عن القيم، بينما تأتي قوانينها اللاحقة لتنسف تلك الواجهة المدلسة؟!

 

رابط المقالة https://alroya.om/post/243263