محمد الرميحى | جريدة الشرق الاوسط
تتقاطع التحليلات العاطفية مع نظرية المؤامرة أو حتى التشفي لتحليل الاعتداء الإرهابي على بقيق شرق المملكة العربية السعودية الأسبوع الماضي، وأدعو إلى مقاربة هادئة لمعرفة أسباب ومن ثم طرق المواجهة لتلك الهجمة الإرهابية، ولنبدأ القصة من بدايتها، ففي 27 أغسطس (آب) الماضي حملت وكالات الأنباء العالمية خبراً عن انشقاق أحد الصحافيين الإيرانيين المرافقين لمحمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني في العاصمة السويدية استوكهولم أثناء زيارة ظريف لعدد من دول شمال أوروبا. الصحافي هو أمير توحيد فاضل الذي عمل في عدد من المؤسسات الإعلامية الإيرانية آخرها وكالة الأنباء التي توصف بالتشدد «موج» وهو في سن لم يشهد فيها إلا النظام القائم. صحيفة «كيهان» المتشددة تضع أمير في صفوف الإصلاحيين وصحيفة «إيران» الرسمية تضعه ضمن الأصوليين! خرج الرجل من أحد فنادق استوكهولم من أجل أن (يدخن) وذهب مباشرة لمكتب الهجرة السويدي ليطلب اللجوء السياسي، رغم وجود ثمانية وأربعين حارساً مصاحباً من منتسبي «الحرس الثوري» مدربين لحماية ظريف ووضع العين على الصحافيين المرافقين، حسب تقرير «مراسلون بلا حدود» تُدرج إيران في المرتبة 170 من أصل 180 دولة في الترتيب العالمي لحرية الصحافة! فليس غريباً أن يفر أبناء النظام من الحلقة التي تضيق. سبب اللجوء أن أمير فاضل قام بنشر قائمة لمزدوجي الجنسية في النظام الإيراني بعضهم يحمل جنسية دول توصف من النظام بـ(الشيطانية) وكان قد حصل على تلك القائمة من عضو البرلمان الإيراني المحافظ جواد كريمي قدوسي، الأمر الذي أزعج السلطات ونفت صحة القائمة، فقاعدة (التقية) مفعلة رسمياً. إلى هنا والأمر شبه طبيعي في إطار الصراع القائم في إيران وضمن مضامين ديكتاتورية دينية. مساء السبت الماضي 14 سبتمبر (أيلول) ظهر أمير توحيدي في مقابلة على محطة «العربية» وفتح كثيراً من الملفات، منها ما يشير إلى احتمال القيام بأعمال عدائية ضد دول الخليج، وما هي إلا ساعات حتى وقع الاعتداء الإرهابي على بقيق، فالأمر مدروس ومبيّت. من جديد فعلت (التقية) فأنكر النظام رسمياً واحتفل بالحدث إعلام النظام ومناصروه.
فسر أمير فاضل انشقاقه بتدهور الأوضاع الداخلية في إيران على معظم الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكان الرد تشديد قبضة الأجهزة الأمنية، واختفاء المئات خلف الشمس، لذلك فقد انتشرت عمليات حرق مقار أمنية في عدد من المدن من قبل المواطنين.
المهم في المقابلة أنه لمّح إلى أن هناك (استراتيجية) لدى «الحرس الثوري» تستهدف المناطق الحيوية في الخليج، توظف لإمكان الدخول في حرب محدودة تستمر عشرين يوماً كما قال. هذا السيناريو يهدف إلى تدخل لاحق من قبل الدول الكبرى من خلال المؤسسات الدولية أولاً لوقف الاشتباك، وثانياً من أجل حل الملف الإيراني العالق مرة واحدة وربما نهائية. تلك الحرب المحدودة تُزف إلى مناصري النظام على أنها انتصار و(تركيع) للطرف الآخر، وتبرر الدخول في (حوار) مع الولايات المتحدة… بُنيت تلك الاستراتيجية على عاملين؛ الأول زيادة تكلفة المخاطر على صناعة النفط مما يهدد الاقتصاد العالمي (تشابه حرب الناقلات في الثمانينات) وإرباك الاقتصاد الدولي والخليجي مما يثير حفيظة الدول الصناعية، والثاني ضعف قدرة المناورة لدى الإدارة الأميركية وشبهة الاسترضاء التي تشجعها الدبلوماسية الإيرانية وتقع في حبائلها الدبلوماسية الغربية.
دافع هذا السيناريو الشمشوني بأن إيران لا تستطيع أن تستمر في تلقي هذا الضغط الثقيل من المقاطعة الأميركية ومن ثم الدولية إلى ما لا نهاية.. استمرار المقاطعة يعرض النظام إلى مخاطر حقيقية في الداخل قد تؤذن بانفجار كبير، وإن لم يتم شيء تجاهه فسوف يبقى على الأقل حتى نهاية عام 2020 موعد الانتخابات الأميركية يكون النظام عندها قد أنهك. إن ربطنا هذا السيناريو بتصريحات وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو التي جاءت في تغريدة له بعد حادث بقيق النفطي تتبين الصورة أكثر، وقد قال إن «إيران تقف وراء نحو 100 هجوم على السعودية، في الوقت الذي يتظاهر كل من الرئيس (حسن) روحاني ووزير خارجيته (محمد) جواد ظريف بالمشاركة في الدبلوماسية». يحمل التصريح كلمات كاشفة، خاصة الإشارة إلى «التظاهر بالمشاركة الدبلوماسية»، ذاك يعني أن هناك جهوداً إيرانية خلف الستار تحاول الوصول إلى جسر دبلوماسي يربط بينها وبين الولايات المتحدة لرفع الخناق الذي تشعر به، تعتمد تلك الاستراتيجية من طرف آخر، على أن النظام الإيراني على استعداد للقيام بـ«مخاطر محسوبة» للظهور بأنه يفعل شيئاً على الأرض يثير حنق العالم وخوفه، ويحقق ما وعد به النظام مناصروه، «إن لم نصدر نفطنا فإن أي نفط آخر لن يصدر»! بائس ظهور المتحدث الحوثي بزيه العسكري على وسائل الإعلام بعد حادث بقيق ليقول للعالم إنه (لا غيره) الذي أرسل الطائرات المسيّرة إلى منطقة بقيق (بعد عمليات استخبارية ورصد دقيقة!)، كما قال، تصريح يجلب السخرية، والأدهى أن ذلك الناطق لم يكن يعرف كيف ينطق حتى اسم المنطقة المستهدفة، حتى من بقي لديهم شيء من العقل من عرب سندروم استوكهولم لا يصدقون ذلك التشنج! (عملية استخبارية)! وموقع بقيق يعرفه أي مبتدئ لديه جهاز تليفون ذكي!
واضح أن هناك محاولة تعميم (التقية)، ويراد لبعض العقول أن تصدق أن للحوثي جهازاً فنياً متقدماً لإرسال طائرات من جبال اليمن إلى سواحل الخليج، الذي سماه سمير عطا الله – مستهجناً – وادي السليكون في صعدة! كلها عملية مصممة للتعمية ودغدغة مشاعر الجهلاء. الحقيقة الأوضح أن إيران وراء الهجوم وبصواريخ من أرضها، وهو ما ينسجم مع ما صرح به الصحافي المنشق أمير فاضل.
الاستراتيجية الإيرانية إذن أصبحت واضحة وضوح الشمس، وتتكون من عدد من الخطوات، منها طرف للإيحاء بقبول التفاوض بشروط ميسرة إن أمكن مع الولايات المتحدة، ومنها التسخين عن بعد والعمل على تفعيل إرهاب يقود إلى اشتباك، وتحميل ذلك التسخين الإرهابي طرفاً ثالثاً (الحوثي) المستعد دائماً لحمل كل أوزار العمائم؛ بهدف تحريك الملف بصورة أسرع. ما تشف عنه تلك الاستراتيجية الثلاثية المحاور لا أكثر من يأس في فرج قريب.
الواضح في الصورة العامة أنه باستمرار المقاطعة سوف يفقد النظام آخر صدقيته لدى قواعده، ويتفسخ من الداخل، هنا أهمية المراهنة على الوقت والتحوط من شرور تلك الاستراتيجية التي سوف تتصاعد مع قدر الألم الذي يحيط بطهران، والتوجه إلى بناء نموذج في الجوار العربي يشكل النقيض لكل ما يمثله نظام طهران من شمولية قامعة وقائمة على أساطير الأولين!!
آخر الكلام: متلازمة استوكهولم هي ظاهرة نفسية تصيب الفرد أو الجماعة عندما يتعاطف مع عدوه أو يظهر مشاعر الولاء له.
رابط المقالة https://aawsat.com/home/article/1911501/محمد-الرميحي/عمل-إرهابي-ولكن-ما-العمل؟