محمد الرميحى | الشرق الأوسط
العالم يتغير وكذلك السياسات. كانت الحكمة الدائمة لدارسي السياسة الأميركية القناعة القائلة «إن الخلافات السياسية الأميركية تنتهي عند شواطئها!»، كناية عن أن السياسة الخارجية الأميركية لا يُختلف عليها بين فرقاء السياسة، حتى إن اختلفوا على كثير من سياسات الداخل. تلك الفكرة المتجذرة حتى عقود متأخرة لم تعد قائمة، فقد انتهى وسط الأسبوع الماضي أكثر السباقات الأميركية النصفية تكلفة، والأكبر كثافة في الإقبال على التصويت في تاريخ الانتخابات. الأمور تتغير بسرعة، وعلى غرف اتخاذ القرار في فضائنا العربي أن تضع هذا الملف أمامها للقراءة المتأنية، دون تفريط عاطفي ولا إفراط آيديولوجي.
الواقع يقول إن الديمقراطيين قد حصلوا على أغلبية معقولة في مجلس النواب، بينما احتفظ الجمهوريون بأغلبيتهم النسبية في مجلس الشيوخ، ولأن الأول ذو صلاحية كبيرة، فمن المتوقع أن يُراجع عدد من الملفات الداخلية والخارجية التي اتخذتها الإدارة الحالية، وقد يُعوق بعضها.
بعض الملفات الساخنة سوف ترى النقاشات، منها على سبيل المثال لا الحصر، أولاً؛ قضية المناخ، وقد شاهد الأميركيون في عدد من ولاياتهم كيف عصف التغير الجذري في المناخ بمدنهم في السنتين الماضيتين، وكانت الإدارة القائمة قد هوّنت من حقيقة التغير المناخي، ومن الاتفاق الذي وُقع بشأنه في باريس واتفق عليه العالم، ولأن الولايات المتحدة من أكبر الدول الملوثة للمناخ بسب الصناعات الكبرى فإن هذا الملف سوف يأخذ أولوية في النقاش المقبل. ثانياً؛ العلاقة مع الشركاء في الحلف الأطلسي، الذي قامت الإدارة بتحجيمه تحت المطالبة بتحمل «المشاركة المالية المتوازنة»، إلى درجة التهديد بالخروج منه كلياً، هذا ملف سيكون للأوروبيين فيه رأي بالتعاون مع الديمقراطيين، لأن الخلل الذي يمكن أن ينتابه سوف يشكل مدخلاً للخلل العميق في العلاقات الدولية الذي تم نظمها منذ الحرب العالمية الثانية. ثالثاً؛ الحرب الاقتصادية التي شنتها الإدارة على الشركاء القريبين والبعيدين، ربما تأخذ الشراكة مع كندا والمكسيك أولوية في الإصلاح، لكون البلدين جارين ملاصقين، إلا أن الحرب الاقتصادية بشكل عام وبالطريقة التي نفذت بها، تضر بقطاع كبير من الاقتصاد الأميركي، وهي بالكاد تكون مفيدة للبعض، والأخبار التي توزعها الإدارة القائمة (ترمب) عن هذا الملف غير دقيقة، كما يرى الديمقراطيون، أي أنها أضرت بالاقتصاد الزراعي الأميركي الهائل، ولم تربح ما تروّج له الإدارة من مكاسب. آليات تلك الحرب سوف تُعطَل أو تُلغى مع الحلفاء الغربيين، وينظر في تقييمها مع الصين واليابان وكوريا الجنوبية. رابعاً؛ موضوع الهجرة الذي أنتج مفهوماً في مفردات السياسة الأميركية هو «التخويف»، أي اعتبار المهاجرين كارثة تستحق العلاج الجذري. سياسة التشدد في الهجرة فقط لسنتين أو أقل منذ تسلم الإدارة الجديدة أنتجت خللاً في هيكل العمالة في السوق الأميركية، منه على سبيل المثال شح اليد العاملة في الزراعة (وكانت تعتمد على المهاجرين)، وكذلك شح في اليد العاملة غير المدربة، خاصة في الخدمات والأعمال الخارجية، مثل تشذيب الأشجار وتوصيل البضائع وشبه المدربة في المستشفيات، ما ألجأ بعض المؤسسات الأميركية الخاصة والعامة للاستعانة بالمتقاعدين، عدا شبهة العنصرية التي رافقت مفردات الهجوم على المهاجرين، وكساد في تصدير المنتجات الزراعية، هذه السياسة في المنع والتخويف سوف يُعاد النظر فيها، وربما تكون إحدى مناطق التماس المبكرة، خاصة أن كثيراً من الأعضاء الجدد الديمقراطيين هم من أصول مهاجرة، وقد خضعت في تطبيقها لما يرى الديمقراطيون أنه مخالف لروح نصوص الدستور الأميركي، ذلك التشدد قوّى من معسكر الجمهوريين، حيث اعتقدوا في البداية أنه يجلب الأصوات، إلى درجة أن قيل أثناء الحملة النصفية الأخيرة، إن الإدارة سوف تغير النص الدستوري في حق المولودين على الأرض الأميركية في الجنسية بشكل تلقائي!
ما تعنيه نتائج الانتخابات أن هناك أولاً التحاماً بين السياسة الخارجية والداخلية غير مسبوق في ظل تقدم العولمة ووسائل التواصل العابرة للجماعات وربما للقارات، فلم يعد كما كان في السابق الخارجي منفصلاً عن الداخلي، وثانيا تعميق الانقسام في المجتمع الأميركي، وهو على شفا، كما يقول المتخصصون في الاقتصاد، «انفجار الفقاعة الاقتصادية»، وربما تكون نتائجها أكبر من نتائج فقاعة 2008 المدمرة! على الرغم من كل ما يشاهد من يُسر اقتصادي!
ملفات الشرق الأوسط سوف تكون على بساط النقاش الساخن، بعضها الذي يتعلق بالشأن الإسرائيلي لن يكون فيها خلاف كبير، بل المتوقع أن الديمقراطيين قد تعلموا من الجفاء الذي حصل بين إدارة أوباما وإسرائيل، وقد استغلت هذا الجفاء إدارة ترمب، مثل نقل مقر السفارة الأميركية إلى القدس، وأيضا سحب الاعتراف بمكتب المنظمة في واشنطن، ومن يقرأ اليوم مذكرات جون كيري وزير الخارجية الديمقراطي في الفترة الثانية لمرحلة أوباما «كل يوم هو إضافة» يقف على الكثير والمثير مما أخطأ فيه الديمقراطيون، بشهادة كيري «في بعض ملفات الشرق الأوسط»، تلك الدروس سوف تبقى أمام قيادة مجلس النواب من الديمقراطيين الجدد!
الأيام القادمة ربما تختلف عما سبقها، فالترويج للقول الذي ساد، بما يسمى «السياسات الشعبوية»، لم يعد نافعاً، مهما صعّد الراغبون فيها من سقف الأقوال الساخنة ضد الآخرين، و«شيطنة» الآخر. وهذا الأمر قد ينسحب على رجال ونساء اعتنقوا تلك السياسات في بعض بلدان أوروبا، أي ما عرف بالاستفتاء على الشعبوية، حيث أثبت الناخب الأميركي أنه لا يمكنه الاستمرار في الاستماع إلى تلك التخويفات. الأمر قد يغير من التوجهات الأوروبية أيضاً، فيرى بعض الديمقراطيين أن الإدارة الحالية لم تخرب علاقات الولايات المتحدة مع عدد من بلدان العالم، ولكنها أيضاً أنهكت روح بعض نصوص الدستور الأميركي، وقد نشهد صراعاً طويلاً ومريراً على التفسيرات القانونية في ظل ما سوف يخرج به المحقق الخاص روبرت مولر عن مزاعم التورط الروسي في انتخابات الرئاسة عام 2016، الذي يحتفظ بأوراق القضية الشائكة قريبة من مخزون أسرار اللجنة.
تلك ملفات متراكمة قد تنهي شهر عسل الإدارة القائمة، التي كانت لها مساحة من التصرف بحرية كبيرة في وجود أنصار الحزب الجمهوري في كلا المجلسين. البعض يرى أن هناك أيضاً مقاومة يمكن أن تزداد من داخل الإدارة على ما يعترضون عليه من «تلقائية» الرئيس، التي في وقت ما اعتقد كثيرون أنها تجذب الأصوات، كما قال أحد مستشاريه «اتركوه على سجيته» فهو يعرف كيف يحشد المصوتين بتلقائيته الطبيعة، إلا أن تلك التلقائية يرى بعضهم أنها أولاً جعلت عدداً ممن التحق بالإدارة يتركها، وثانيا الشعبوية ليست قادرة على تكثيف الأصوات في كل وقت وزمان، فالذي يحسب الأمور بتلقائية، يستهين في الوقت نفسه بعقول الآخرين، حيث «تفلت» منه عبارات منفرة حتى لحلفائه، فالإدارة الجمعية الأميركية تعي أن إدارة دولة عظمى قادرة على تثبيت السلام العالمي أو إشعال الحرائق، تحتاج إلى عقل يدرس، لا لسان مثل «المدفع الفالت»، ومنذ فترة ظهر مصطلح جديد لدى الديمقراطيين هو العودة إلى ما يسمونه الخطاب السياسي المدني «المهذب» نقيضاً للشعبوي، وذلك خط يرغب في العودة إلى النقاش الهادئ في فهم المصالح العليا الأميركية بعيداً عن الشعبوية!
سوف تظهر خلال الأسابيع القليلة القادمة الخطوط العريضة للبيئة السياسية الأميركية الجديدة، والمؤكد أنها سوف تختلف عما شهدناه.
آخر الكلام…
متابعة تطورات السياسة الأميركية سوف تنبئنا ما إذا كانت مقولة «الديمقراطية تُصلح من أخطائها» صحيحة أم هي محض خيال!
رابط المقالة https://goo.gl/QZASqd