د. أحمد عبدالملك | الاتحاد – الامارات
كنت أتابع برنامجاً حوارياً على قناة عربية مهاجرة حول حقوق الإنسان في الوطن العربي . ولقد شدني حديث بعض المتصلين بالبرنامج الذين عبّروا عما يجول في خواطرهم حول موضوع البرنامج. قال أحدهم : ” إن الوطن العربي سجن كبير، إذا أن السلطة تتحكم في إقامة المواطن وسفره ، وفي دخوله الوطن وخروجه منه ، كما أنها تبرر قمعها – في محاصرة المواطن مجترئة بذلك على أبسط حقوق الإنسان- بإصدار قوانين تحت ذريعة حفظ الأمن” !. لكن الواقع هو حفظ هيبة السلطة . متصل أخر قال : ” إن المواطن العربي قد عودته السلطة على حياة الخوف ، لذلك نشأ لا يعرف حقوقه ولا يريد أن يعرفها” ؟! وتلك قضية كبرى تؤثر في نظرته للأمور ومجريات الأحداث وعلاقته مع السلطة . آخر قال : “الشعب العربي يعيش كذبة كبرى ! فلا توجد ديموقراطية وعدل ، رغم أن العدل أساس الملك – كما يردد الحكام – الكذبة الكبرى تطال حقوق المواطنين وثروات بلدانهم ومستقبل أبنائهم “. أعتقد أن موضوع الحريات في الوطن العربي يحتاج إلى نقاش طويل ! ذلك أن السلطات في العديد من بلدان الوطن العربي لم تعود الشعوب على الحريات ؛ بل ثبتت في عقول شعوبها أن الأمن هو الأساس ، وأي خارج على الأمن يكون خارجاً على إجماع الجماعة ! . ولقد تأطر هذا الاتجاه مع ازدياد التعصب الطائفي والقبلي. ولعبت العديد من الأنظمة على هذا الوتر من أجل ترسيخ قيم الطاعة العمياء وولاء ” الرعية ” ل ” الراعي ” ، وصارت القبيلة أو الطائفة المدافع الأول عن طغيان السلطة ، وسيطرتها على مقدرات الشعوب ، بدلاً من أن تشكل قوى مجتمع مدني يمكن أن يقارع السلطة ويتعاون معها في آن واحد . ولقد نتج عن التحالف الاستراتيجي ” المصالحي” بين السلطة و بين الطائفة أو القبيلة أن غابت روح المبادرة لمساءلة الدولة في قوانينها الجائرة ، أو ممارستها في كبت الحريات وتجاوز الدساتير التي تضعها وازدياد حالات الفساد والعبث بمقدرات الشعوب في مشاريع لا يعرف عنها أحد ولا يسمح لأحد أن يناقشها !؟ ومن يجروء على ذلك يُجابه بقانون أمن الدولة أو يدان بتعرضه للأمن الوطني !؟ موضوع السجن الكبير جسّدهُ نظام صدام حسين في حكمه للعراق لأكثر من عشرين عاماً ، وهو ذات الحال مع نظام بن علي في تونس الذي أنهاه الشعب ، حيث يتم منع المواطنين من السفر ، ولعلنا نستحضر قوارب الموت التي تنقل الأفارقة نحو ( نعيم أوروبا) عبر البحر !؟ كما أن مثل هذه الأنظمة الشمولية تسيطر سيطرة تامة على الأمن بقصد ” جور” السلطة ، لا حفظ النظام أو حقوق الإنسان . ولعل أهم ما في قضية الأمن الوطني هو حق الإنسان في أن يمارس حقه كمواطن ، وأهم ما في ذاك الحق أن يأمن على ذاته وأهله ومورد رزقه وصحته وتعليم عياله !؟. وهذه الأمور تنتفي في الحكم السلطوي الشمولي ! والنماذج لدينا عديدة على ذلك . في السجن الكبير تضيع الحقوق ، وتهيمن لغة الخوف والتخويف ، وتقدم الحكومات ” قرابين” لضحايا ليكونوا عبرة للغير !؟ فتتم المصادرة والإقصاء وقطع الأرزاق وتضييق سبل العيش . ونحن ندرك أن هنالك ملايين العرب يعيشون في أوروبا؛ ليس من أجل لقمة العيش فحسب ، بل من أجل أن يعيشوا في مناخ لا خوف فيه ولا إرهاب دولة . ولا محاصرة أو مصادرة !. هذه هي حقيقة السجن الكبير ، وهذا السجن يفرض عليك ماذا تلبس وماذا تأكل وممن تتزوج وكيف تفكر وكيف تكتب وماذا تسمع وماذا تشاهد وماذا تقرأ ، وبمن تتصل ؟! الرقابة الفكرية من أهم “مميزات” هذا السجن الكبير !. وهذا السجن يصنف البشر – رغم تساويهم الشكلي في الدساتير- بين المواطنين والمعارضين ، وبين ” أهل النعيم ” و ” أهل السعير” ، وبين المتنعمين بنعماء الدولة وأفيائها ، وبين المنبوذين الخارجين ” من رحمتها” ، والمحرومين من ” شرهات المواسم ” !. وفي هذا السجن يقمع أي تحرك مدني . وتتم محاصرة المستنيرين والمفكرين ، وكل الذين يحاولون إضاءة الشموع من أجل مستقبل أفضل لشعوبهم ، حتى تظل الشعوب في ظلام دامس ، لا تعرف كيف تطالب بحقوقها المشروعة ، وتظل تتلقط على مائدة النظام ما يأتي من الفتات . أما الكذبة الكبرى حول الديموقراطية والعدالة التي تمارس في الوطن العربي ، فإنه لا يوجد نظام عربي يمارس الديموقراطية والعدالة ممارسة حقيقية !؟ حتى في النظم الجمهورية التي تحولت إلى ” ممالك” ديكتاتورية ، حيث يجلس الحاكم ( الجمهوري) المفروض ان يتغير كل 4 سنوات ، يجلس أكثر من ثلاثين عاماً ، حتى وإن غضب عليه الشعب وطالب برحيله ، والأمثلة ماثلة هذه الأيام ! يجلس الحاكم ويترك الحبل على الغارب لأهله وذويه وحاشيته يسرقون مال الشعب ، ويخربون مستقبله ، ويكرر الوعود على مدى ثلاثين عاماً دون أن يحقق شيئاً منها ، حتى يثور الشعب !؟ في الوقت الذي يُسجن في المفكرون وأصحاب الرأي والعلماء والمبدعون وتصادر حريتهم في ممارسة حقوقهم المشروعة مثل حق التعبير أو حق العمل أو حق تكوين الجمعيات والأحزاب والمؤسسات المدنية . فعلا يعيش المواطن العربي كذبة كبرى حول الديموقراطية وحقوق الإنسان . فأي ديموقراطية عندما يتم تكميم الأفواه ، حتى لا تتحدث عن ” تزوير” الانتخابات كي يفوز حزب واحد في البلاد؟! وأي ديموقراطية أن يحتفظ الرئيس وأهله بخزينة الدولة وبأنبوب الخير ؟ وأي ديموقراطية أن يبقى الحاكم ثلاثين عاماً دون تغيير مهما كانت أخطاؤه وأخطاء حاشيته . وأي ديموقراطية أن تبقى مناهج التعليم ورسائل الإعلام سنوات تمجد ” إنجازات الدولة وعدالة الرئيس ولكأنه “ظل الله في الأرض”؟! هذه هي ملامح الكذبة الكبرى !. وعلى المواطن العربي أن يطلق الكذبة الصغرى ، حتى لا ” يزعل” منه النظام لو خالف الكذبة الكبرى ! وعلى هذه المواطن المسكين أن يمشي مع الجدار يتلفت يمنة ويسرة حتى لا يؤخذ بجريرة رفع رأسه في زمان يريدون أن تكون كل الرؤوس مطأطاة . إن القوة والثروة والأمن أعمدة السجن الكبير ، وغذاء الكذبة الكبرى ! فإلى متى يظل الشعب العربي يعاني ذل الكذبة نهاراً وهمّ السجن الكبير ليلاً؟!